قبل قرن كتب ديفيد هربرت لورنس روايته الثالثة. استقبل النقّاد «أبناء وعشّاق» بفتور، واتُهمت بالإباحية، لكن كثيرين يرونها اليوم أفضل أعماله. كتبها في أقل من ثلاثة أعوام غذّت أحداثها الكتاب. ترك صديقة الطفولة جيسي تشامبرز، فسخ خطبته للوي بوروز، توفيّت والدته بالسرطان، أصيب بالتهاب الرئة، ترك مهنة التعليم وعاد إلى نوتنغهام ليعشق زوجة أستاذ سابق له ويهرب معها ويتزوجها. بدأ كتابتها خلال مرض والدته التي رآها ذكيّة، ساخرة ورهيفة، وأشفق على حياتها المهدورة مع زوج يعمل في منجم وذي طبع عنيف ورغبات لا تشبع. رآها أرقى اجتماعياً من والده، وفي «أبناء وعشّاق» المستندة إلى حياته يحتقر وليم وبول والدهما، ويؤثّر شعورهما في علاقاتهما العاطفية مستقبلاً. شعر بكرها وليم بالفخر حين سار معها يوم عطلة سنوية، وبدت السيّدة الوحيدة بين النساء بردائها وقبعتها السوداء. كان والد غرترود كوبارد مهندساً، والتقت عامل منجم في حفلة راقصة في فترة الميلاد وأحبّته. لكن صعوبات الفقر صدمتها وقضت على انجذابها الجنسي إلى زوجها، فنقلت عاطفتها إلى ، لا سيما وليم. يتعلّق الفتى بها ويدفع عنها عنف والده الذي أنفق في شكل «ملكي» على الكحول بدلاً من أن يكرّس راتبه الضئيل لزوجته وأطفاله الأربعة. فقدت مسز موريل الرغبة بزوجها بعد ولادة بول، ثاني أولادها، وهو كان هادئاً، نحيلاً ورقيقاً خلافاً لوليم القوي، الكبير البنية. يترك نوتنغهام إلى لندن حيث يعمل ويبدأ ارتقاءه إلى الطبقة الوسطى، ويحطّم قلب أمّه حين يمرض ويموت. حين يصاب بول بالتهاب الرئة تدرك أنها أهملت الأحياء من أجل الميت. يحب النوم في سريرها، وحين ترافقه إلى مصنع جوردان ليجري مقابلة عمل تتصرّف كأنها حبيبته، ويشعر الاثنان بحماسة العشّاق الذين يقومون بمغامرة. «لن أتزوج ما دمت معي» يقول ويتبادلان قبلة طويلة، حارّة (الفصل الثامن). يراهما الأب ويكاد يتعارك مع ابنه لو لم تتظاهر الأم بالإغماء. ينعشها بول ويطلب منها ألا تنام مع والده. حين كانت والدة لورنس تُحتضر قال لصديق: «أحبّ أحدنا الآخر حب الزوج والزوجة تقريباً». صديقته الأولى جيسي تشامبرز كشفت قوله لها إنه أحبّ أمه كعشيق، وإن ذلك ما منعه من حبّها. عرف الكاتب أن عقدة الأم - الحبيبة لدى بول ليست فريدة، وقال إنها مأساة آلاف الشبان في إنكلترا. اختار للأم اسم غرترود التي كانت والدة هاملت «الأوديبي» أيضاً، وأوضح لإدوارد غارنت، الذي راجع مخطوطة «أبناء وعشّاق» أن الرواية عن امرأة قوية ورهيفة تنجذب إلى رجل أقل شأناً وتتزوجه، لكنها لا تجد معه الرضى الذي تبحث عنه فتجعل ولديها عاشقين حين يكبران، وتتسبّب بعجزهما عن حب الأخريات. فريدا ويكلي، زوجة أستاذه الألمانية التي أصبحت زوجته، أكّدت معرفة لورنس بعقدة أوديب، وذكرت أنهما تحدثا عنها في لقائهما الأول وتطرّقا إلى تأثيرها في مستقبل الرجال. في الذكرى المئة لصدور «أبناء وعشّاق» أصدرتها دار فوليوسوسايتي.كوم في طبعة جديدة مع مقدمة للكاتب الإرلندي كولوم تويبين ورسوم لآن - ماري جونز. لا يعتبر د ه لورنس (1885 - 1930) أكبر روائيي إنكلترا كما رأى الشاعر فيليب لاركن، لكن روايته تبقى عملاً رائعاً على رغم كثافتها العاطفية التي تعارض الكتمان المفضّل اليوم لدى الكتّاب. كتبها أربع مرّات فقط، وهذا لا يقاس بإعادة نظر الكتّاب الآن في مخطوطاتهم. أهداها إلى غارنت الذي عمل مستشاراً أدبياً في دار داكوورث، ومع أن هذا لم يكن محافظاً شطب ثمانين مقطعاً شكّلت عشر حجمها. كان غارنت شكا من كون أدب تلك الحقبة تناول حياة الكفّار والهندوس وسكان جزيرة مالايو أكثر مما اهتمّ بالعمّال في مناجم يوركشير ومطاحن لانكشير. الشكل الجديد رأى «أبناء وعشّاق» رواية عظيمة، واعتبرها العمل المعاصر الوحيد الذي تمتّع برؤية عريضة لاستعادة حياة الطبقة العاملة من أيدي الطبقة الوسطى وإرجاعها إلى مناخها الأصلي بحقيقته القاسية. أحسّ بالسعادة حين وصلته نسخة منها وهو في إيطاليا، وكان فضله كبيراً في تقديم لورنس إلى وسط لندن الأدبي. وجد بعض النقاد «أبناء وعشّاق» متفلّتة، تنتقل من موضوع إلى آخر بلا انتظام، وتتحرّر من عبء النهاية والاكتمال. أي أن لورنس اختار في عام 1913 النهاية المفتوحة التي نألفها اليوم. لكنه أكّد لغارنت أنها التزمت الشكل، وأضافت فريدا ملاحظة في آخر رسالته إلى غارنت تقول: «على كل جديد أن يجد شكلاً جديداً لا يلبث أن يُدعى فناً في ما بعد». أرسل لورنس، الذي رسم وكتب الشعر أيضاً، المخطوطة إلى ناشره هاينمان فرفضها شاكياً من افتقارها إلى الوحدة والكتمان. تمنّى في رسالة إلى غارنت أن يتحوّل اسم الناشر لعنة، وصدرت الرواية عن دار داكوورث. وصلته نسخة وهو في ألمانيا، فكتب لغارنت أنه فخور بالكتاب وقال إنه لن يكتب بالأسلوب نفسه ثانية. كان في السابعة والعشرين، ورآه خاتمة شبابه. طبعت جامعة كمبريدج الرواية كاملة في 1992، فظهر التغيير والحذف اللذان اضطرّ غارنت إلى اعتمادهما مراعاة لحساسيات العصر. استبدل «الردفين» ب «الجسد» في وصف الكاتب جمالهما لدى تعري ميريم للمرة الأولى. حذف غارنت مقطعاً لدى بقاء بول في منزل كلارا وأمها بعد عودتهما من الأوبرا. كان عليه النوم وحيداً في غرفتها، وحين رأى جوربيها النايلون ارتداهما وعرف أن عليه النوم معها، وجلس على السرير وهو يحس برغبة شديدة. اطّلعت جيسي تشامبرلين، صديقته الأولى التي دعاها ميريم، على مسوّدة للرواية، ورأت أن ما حدث بينهما كان أكثر إيلاماً وإثارة للاهتمام. مسوّدة لاحقة صوّرتها أميّة، باردة وجامدة وأشعرتها بأنها مصابة بجرح داخلي رهيب وبالهزيمة أمام والدته. حين أرسل لها «البروفة» الطباعية أعادتها من دون أن تقرأها وقاطعته. قالت النسوية كيت ميليت إن تعاليه الفكري ساديّة جنسية مموّهة كتعليم ذكري. يقول بول لميريم إنها راهبة، لكن كلارا تؤكد له أن ميريم ترغب به. يعرّف كلارا بجسدها: «مصنوعة من الشغف». لكنها نسوية مناضلة من أجل حقوق النساء السياسية، وتتعلّم الفرنسية بنفسها. تشكو مسز موريل اتكالها الاقتصادي، وتغضب ميريم من الممنوعات عليها لكونها امرأة، وتثقّف نفسها بنفسها وتتابع تعليمها. رأت ميريم الدنيا من منطلق الدّين، وإذ بحثت يوماً عن ورود بريّة لتريها لبول شعرت بأنهما سيتناولان المناولة الأولى معاً. كرهتها مسز موريل قائلة إنها من اللواتي يمتصصن أرواح الرجال فلا يبقى لهم شيء منها. عرف بول أنه حياة والدته، وأكّد لها أنه استلطف ميريم لكنه لم يحبها. ردّت أنها تقبل بأي فتاة ما عدا ميريم لأنها لن تترك لها مكاناً في قلبه. عجزت عن الانسجام مع الآخرين وإقامة علاقات إنسانية، واكتفت بالطبيعة صديقاً ورفيقاً وحبيباً وحيداً. طلبت ابنة السادسة عشرة من الله ألا يدعها تحب بول موريل إلا إذا كانت مشيئته أن تفعل. قطع علاقته بالفتاة ثم عاد إليها، فاستسلمت الأم وهي تفكّر أن الفتاة قتلت حس البهجة والدفء فيه. بقي معذّباً، ضائعاً مع ميريم، وحين بلغ الحادية والعشرين كتب لها أن حبّه بات روحاً بلا جسد لأنها راهبة. راقبها يوماً وهي تغنّي، وبدا فمها روحانياً، يائساً مثل فم راهبة تشدو للسماوات. العذراوية أبدية فيها، فلماذا يطلب منها الشيء الآخر؟ أحبّها كثيراً، لكن حبّه افتقر إلى شيء ما، قال لها، وكان كسيحاً روحانياً. نظرت إلى عينيه القاتمتين بالعذاب وأشفقت عليه. تركها إلى كلارا التي كبرته بستة أعوام، وهجرت زوجها من دون أن تطلّقه. كانت باردة، غامضة وميّزت نفسها عن طبقتها الوضيعة. نقمت على الرجال لتمسّكهن بالدور الخدمي للنساء، وأحس أن عدائيتها نبعت من التعاسة لا الاحتقار، وشعر بالحنان تجاه كل الموجودين في اللقاء. نام معها، وكاد زخم اللحظة أن يكون عذاباً، وتركته يعبدها ويرتجف من فرحه بها. شفى كبرياءها الجريحة، واعترف لأمه بأن كليهما لا يحب الآخر بعمق. آمن بأن المشكلة فيه، فهو لا يستطيع أن يحب ويمنح نفسه لامرأة، ولن يقابل المرأة المناسبة ما دامت والدته حيّة. عملت كلارا معه في المصنع، وجرحها حين أعطاها أوامره بإيجاز ومهنية في الوقت الذي رغبت في لمس صدره. حلّ الحنان بعد فترة محل الشغف الكبير. أرادها أن تكون ما لم تستطع أن تكونه، وأن تُبقي روحه ساكنة. بقيت مجنونة بالرغبة، وعجزت عن رؤيته من دون أن تلمسه، لكنها نفرت منه حين أصيبت والدته بالسرطان وبات هادئاً، غريباً وغائباً وهو نائم معها. رغب في موت أمه الميؤوس منها بسرعة، ولم يشأ تقديم الطعام لها، وعرفت. سحق حبوب المورفين ووضعها في كوب الحليب، فشكت من مرارته، وتساءل ما إذا كانت أدركت ما ارتكب. يتدخّل ليعيد كلارا إلى زوجها، ويعجز عن الرسم بعد وفاة والدته، وهو يحس بالضياع والهباء. لكن غريزة البقاء تنتصر، وفي النهاية يدير بول ظهره للظلمة ويتّجه نحو وميض المدينة الذهبي.