كثيراً ما يتردد في وسائل الإعلام المحلية أن مشكلة الإسكان في السعودية تنحصر أو تكاد في غلاء الأراضي التي يرغب الناس في البناء عليها. نعم، غلاء الأراضي جزء من المشكلة، غير أن غلاء الأراضي ليس كل المشكلة، هناك صعوبات أخرى، على المدى الطويل، لا تقل أهميتها عن ارتفاع أثمان الأراضي السكنية، ومن أهم الصعوبات الأخرى التعوّد على البناء الفردي وما يتبع ذلك من علاقة وثيقة بين البناء الفردي وصعوبة التمويل على أساس فردي. ولنفرض أن منشأة اقتصادية تحتاج إلى عشرات السيارات أو مئاتها، أو حتى آلافها، تقوم هي بصناعة ما تحتاجه من سيارات. بالطبع لن تتمكن مهما كانت إمكاناتها المادية والفنية من تحقيق ذلك بطريقة اقتصادية مجدية. فبالنسبة إلى السيارات كمثل فإن رجل الأعمال الشهير هنري فورد لم يحقق ما حققه من نجاح أسطوري في صناعة مئات آلاف السيارات وبيعها في البدء ثم ملايينها سنوياً لأن شركته هي التي قامت بصناعة كل الأجزاء التي تتكون منها السيارة. لا بالطبع، وإنما لأنه ابتكر وسيلة جمع مكونات السيارة من مئات الشركات الأخرى في مكان واحد، وأتى بما يشبه منصة مستطيلة متحركة بين نقاط التجميع ليتم إخراج عشرات السيارات، وفي ما بعد مئاتها يومياً، من مصنع واحد أتت إلى موقعه آلاف المكونات من آلاف المصانع. وما ينطبق على السيارة ينطبق على الطائرة والثلاجة والغسالة وغيرها. ومن أهم عناصر الاقتصاد الصناعي التخصص، لتمكين كل منشأة صناعية على حدة من صناعة جزء من أجزاء يحتاجها آخرون لإنتاج سلعة متكاملة. وما قطاع بناء المساكن في وقتنا الحاضر، إلا صناعة، ينبغي أن تخضع لاقتصادات التصنيع. أي ليكون موقع البناء مصنع تجميع لمكونات المبنى. فالجدران، التي تتخللها جميع مسارات الكهرباء والماء والاتصالات، والسقوف، وعوازل السطوح، والنوافذ، والأبواب، وبقية مكونات المباني يمكن أن تأتي من مصانع متعددة مختصة، وبأسعار أقل إذا أمكن التعاقد على شراء كميات كبيرة متكررة منها. وهو ما يتعذر تنفيذه بالنسبة إلى البناء الفردي. ويعود ذلك إلى أن البناء الفردي يحول دون تكرار المقاسات نفسها وبالمواصفات نفسها، إضافة إلى أن البناء الفردي لا يخضع لمواصفات علمية موحدة، وإنما لاجتهادات فردية. وفي المدى القصير، ستؤدي مشاريع وزارة الإسكان إلى التخفيف من المشكلة، على رغم الشكوى المتكررة من تأخر مشاريع وزارة الإسكان، وعلى رغم المرارة التي يشعر بها الألوف من ذوي الدخول المتوسطة والقليلة من العاجزين عن امتلاك سكن يؤوي من يعولون. وما يمكن قوله بدرجة عالية من الثقة أن البطء من طبيعة العمل الحكومي حتى حينما يقود وزارة الإسكان رجل لا يشك من يعرفه في نزاهته وإخلاصه، ولا يخفى عليه ولا على مساعديه معاناة الكثيرين من عدم القدرة على امتلاك السكن. وعلى المدى الطويل، فالجزء الأكبر، لا بد من أن يكون عم طريق المطورين، إذا وجدت الضوابط والأنظمة التي تحمي حقوق المشترين من الغش سواءً بالالتزام بمواصفات البناء المتفق عليها أم في تحديد تكاليف التمويل لا كنسبة يسهل التلاعب بها، وإنما كمبالغ محددة يسهل على عامة الناس فهمها. وفي الوقت ذاته لا بد من حفظ حقوق المطورين المشروعة في الحصول على ما يكفي لتعويضهم عن تكاليفهم، إضافة إلى عائد منافس على استثماراتهم. ويتبع بناء المجموعات السكنية وجود المساجد والمدارس والأسواق في مكان واحد، ما ييسر حياة سكانها اليومية. وبإيجاز البناء الفردي كالعمل الفردي محدود الفائدة. والحل على المدى الطويل، كما هو، في الدول المتقدمة، المطورون المختصون. فوجودهم يخلق قطاعات أكثر كفاءة في إنتاج مواد البناء كافة، ويؤدي إلى خفض التكاليف. لقد اعتمدت الحكومة السعودية مبلغاً ضخماً لحل الجزء الأكبر من مشكلات الإسكان، غير أن الحكومة وحدها لن تكفي للوفاء بكل متطلبات الإسكان، ولا بد من الاستعانة بالقطاع الخاص. والدولة تستطيع خلق الدوافع الذاتية لدى المطورين، وفي الوقت ذاته مساعدة المواطنين مباشرة لتمكينهم من الامتلاك أو على الأقل الوفاء بدفع الإيجارات ما يساعد على زيادة المعروض من السكن المخصص للإيجار. ولا ينبغي التقليل من الصعوبات العملية في تنمية قطاع ضخم تؤثر فيه وتتأثر به مصالح متناقضة، إضافة إلى ما يكتنف كيفية وسرعة تطويره من اعتبارات اجتماعية وعادات انطلقت من موروث شعبي نما وترعرع منذ مئات السنين. * أكاديمي سعودي