خمسون بليون دولار مبلغ يمكن أن يسدد الدين العام المصري وأكثر، لكن بالكاد يكفي نفقات الولاياتالمتحدة لأيام، ما حمل وزير الخزانة جاكوب لو على توجيه رسالة إلى أعضاء الكونغرس، يعلمهم فيها أن رصيد وزارته لن يكون فيه أكثر من 50 بليون دولار مع حلول منتصف تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وهذا المبلغ لن يكفي نفقات الحكومة ليومين أو اكثر. ويعني ذلك أن على الكونغرس إقرار قانون يسمح برفع سقف الدين العام ليتعدى 16 تريليون و700 بليون المسموح به حالياً. وكان لو أعلن أن الحكومة الأميركية استنفدت كل الأموال التي يسمح لها الكونغرس باستدانتها في أيار (مايو) الماضي. ومنذ ذلك الحين، عمدت وزارته إلى اتخاذ «تدابير استثنائية» لتأمين الأموال المطلوبة. لكن مفاعيل هذه التدابير تنتهي في منتصف تشرين الأول المقبل، وفق المسؤول الأميركي، ما يتطلب إقرار الكونغرس قانوناً جديداً يسمح بمزيد من الدين العام. ويأتي إعلان لو في وقت تحتاج الحكومة الأميركية إلى مصادقة الكونغرس قبل نهاية الشهر المقبل، للاستمرار في تمويل ذاتها أو تتوقف عن العمل، باستثناء الخدمات الأساسية مثل الشرطة والجيش والإسعاف، وتغلق أبواب معظم الوكالات التابعة لها. في زمن الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش، لم يمانع الكونغرس الذي كان يسيطر عليه الجمهوريون، قبل أن ينتزعه الحزب الديموقراطي في انتخابات عام 2006، رفع سقف الاستدانة مراراً، والمصادقة على تمويل الحكومة تلقائياً. لكن عودة الجمهوريين إلى الإمساك بغالبية مجلس النواب عام 2010، اقترنت بانقلاب في مواقف هذا الحزب وممثليه، الذين باتوا يصرّون، في كل مرة تطلب فيها حكومة الرئيس الديموقراطي باراك أوباما رفع سقف الدين أو المصادقة على التمويل، على خفض الإنفاق الحكومي تحت طائلة عدم المصادقة عليه. وفي عام 2011، أدت مناورة الجمهوريين وتهديدهم بوقف عمل الحكومة إلى خفض نمو الناتج المحلي بواقع عشرين نقطة مئوية. وفي صيف ذلك العام، أفضى إصرار الجمهوريين على منع مزيد من الاستدانة، إلى خفض وكالة التصنيف «ستاندرد أند بورز» تصنيف الولاياتالمتحدة الائتماني من AAA الى AA+، قبل أن يوافق الكونغرس على التراجع في مقابل تنازلات قدمها أوباما من طريق الاقتطاع من الإنفاق. واليوم كما في الماضي، يطلب الجمهوريون اقتطاعاً مماثلاً، «دولاراً في مقابل دولار»، وفق تعبير رئيس الكونغرس الجمهوري جون باينر، في مقابل مصادقتهم في الكونغرس على رفع سقف الدين العام. ويعتقد الجمهوريون أن مشكلة الولاياتالمتحدة ليست اقتصادية، بل تكمن في تضخم الإنفاق الحكومي، وعلى أي حكومة إبقاء إنفاقها ضمن الضرائب التي تجبيها، ما يجنّبها العجز وتالياً رفع سقف الاستدانة. ويلقى هذا التحليل آذاناً صاغية وتأييداً لدى شريحة واسعة من الأميركيين، خصوصاً بين الجمهوريين الأكثر يمينية ومناصري «حزب الشاي». لكن في رد أوباما على الجمهوريين وجهة نظر، إذ ينقسم الإنفاق الأميركي إلى نصفين: غير تقديري وتقديري، يتمثل الأول بالتزامات واجبة على الحكومة مثل تمويل صناديق التقاعد والرعاية الصحية، ويبلغ مجموعه السنوي 2293 بليون دولار. فيما يصل الشق التقديري إلى 1510 بلايين سنوياً، ويتضمن معظم موازنات الوزارات مثل الدفاع البالغة موازنتها 666 بليون دولار سنوياً. ويقول أوباما، إنه مستعد لخفض الشق التقديري، فيما لا يخضع الشق غير التقديري لسيطرته، وهو يمثل التزامات وعدت بها كل الحكومات السابقة والكونغرس على مدى عقود. وإذا أخذنا في الاعتبار واردات أميركا السنوية البالغة 2900 بليون دولار، ولو استمعنا إلى إصرار الجمهوريين على الإبقاء على موازنة وزارة الدفاع بل زيادتها، نلاحظ أن مجموع الشق غير التقديري والدفاع هو 2959 بليوناً، أي بعجز سنوي يبلغ 59 بليوناً. وحتى لو أراد أوباما إدخال تغييرات على التزامات الحكومة، مثل تخصيص صناديق التقاعد والرعاية الصحية، فالأمر ليس بيده وحده بل يحتاج إلى مصادقة الكونغرس. ويتطلب هذا الأمر غالبية تتألف من الحزبين، ولا يمكن أن يحصل بمجرد تهديد الجمهوريين لأوباما بمنع مزيد من الاستدانة أو حجب التمويل عن حكومته. ويكرر أوباما ان على الكونغرس الوفاء بوعوده، وان على الحكومة عدم التخلّف عن دفعاتها، خصوصاً خدمة الدين العام أو إعادة تغذية هذا الدين بتسديد أموال المستثمرين. ولا يؤذي أي تأخير من هذا النوع أوباما سياسياً، بل صدقية الدولة الأميركية المالية وصورتها الاقتصادية عموماً. وأظهرت استطلاعات الرأي، أن غالبية الأميركيين لا يؤيدون قيام الحزب الجمهوري بأخذ «صدقية الدولة الأميركية رهينة» كوسيلة لإجبار أوباما على التقشف، ما يعني أن مناورات عام 2011، أفضت إلى تراجع في شعبية الجمهوريين وليس أوباما أو الحزب الديموقراطي، إلى درجة أن احد أعضاء الكونغرس من الديموقراطيين، تمنّى لو يكرر الجمهوريون «ألعاب» عام 2011 حول الموازنة، لأن من شأنها أن تفيد الديموقراطيين في انتخابات الكونغرس العام المقبل. المواجهة المالية بين الكونغرس الجمهوري وأوباما الديموقراطي لم تنضج بعد، لكنها بدأت. والأيام التي تفصل الأميركيين والعالم عن ساعاتها المصيرية صارت معدودة، خصوصاً أن الكونغرس لا يشرع في معظم أيام أيلول (سبتمبر) المقبل، لأنه يلتئم لأيام فقط، ما يعني أن التسوية السياسية مطلوبة، أو تواجه الولاياتالمتحدة خفضاً جديداً في تصنيفها الائتماني وانخفاضاً في ناتجها المحلي، في وقت تسعى إلى إعادة تنشيط اقتصادها لإعادته إلى سكة النمو.