في روايته الثانية «رهانات خاسرة» (أوراق - القاهرة)، يبدو الكاتب المصري حسين البدري معنياً أكثر بالالتحام بالراهن، عبر زاوية نظر تتصل اتصالاً وثيقاً بالبيئات المهمشة التي يختلط فيها كل شيء بكل شيء. هكذا تتوه المسافة ما بين البحر والصحراء، وتتعمق الهوة بين أبناء المدن، وأبناء البداوة، تلك التي لا يعتبرها البدري وقفاً على مكان، بل هي نمط تفكير بالأساس: «البداوة بداوة القلوب والأرواح وليست أبداً تلك المرتبطة بمكان الإقامة أو كونك تتغوط في حفرة أو تغتسل بأبريق» (ص 94). اتكاءً على عبارة نصية وردت في المتن السردي للرواية، يحيل البدري إلى عنوان روايته: «تجتاحني رغبة عارمة في البكاء عندما أتذكر رهاناتي الخاسرة، ما حصلت عليه من هذه الحياة في ثلاثيني الأولى، نشأت في بيئة خشنة تعتبر الدموع ملك أعين «الحريم» فقط، لو أنني أبكي قليلاً...» (ص 85). هذا نص يحيل إلى سياق عام قاس، وموحش، يترك قتامة في الروح، فيصيبها باغتراب خاص، اغتراب ذاتي ينشأ حين يفشل المرء في أن يكون ما يريده، ومن ثم نصبح أمام رواية تكشف خيبات الروح ومأزقها الخانق في مقاومة عالم من الوحشة اللانهائية. يعرّي البدري القبح المجتمعي، عبر كشفه رداءات التمسح الكاذب بالدين، عبر أبنية سردية تتخذ شكل التقسيم المقطعي المعتمد على الفواصل، لا الترقيم، وبما يعني أن ثمة تلاحماً في السرد، وتدفقاً فيه في آن. ثمة إهداء بالغ الدلالة يصدّر به الكاتب روايته: «إلى أبناء الأرض والوطن والإنسان: مينا دانيال/ رامي الشرقاوي/ هيثم منير/ الحسيني أبوضيف/ الثوريون لا يموتون أبداً»، لنصبح من ثمّ أمام رواية تنحاز إلى قيم الثورة المصرية بموجاتها المتنوعة سعياً إلى عالم أكثر جمالاً وحرية. وما بين زرادشت، أحد أهم العلامات في تاريخ الفكر الإنساني، وميشال فوكو، المفكر الفرنسي الشهير، والحاضرين في مفتتح قسمي الرواية المركزيين بوصفهما علامتين إشاريتين على رؤية العالم في النص، تتشكّل ملامح كتابة روائية تستقي معينها من قبض ثمين على الأفكار من جهة، وتشظٍّ للذات عبر عالم متلاطم تدفعه الشهوة من جهة ثانية، ويبدو مدفوعاً بإرادات عبثية تزيده قسوة وبشاعة. ويتجلى في شخوص الرواية الثلاثة المركزيين، الراوي البطل/ منصور، والصديقان عبدالكريم وعلي، اللذان يمثلان ما يعرف ب «البطل المساعد» في الرواية. ثمة بشر يعيشون على الحافة، ويقررون مواجهة العالم عبر السخرية الدائمة منه، والتندر عليه، وليس أكثر دلالة على ذلك من وظيفة التعليق التي يقوم بها السارد الرئيس داخل الرواية. فهو كثيراً ما يتدخل معلقاً ليعلن شيئاً بعينه، وهذا ما تكرر في مواضع مختلفة من النص، مثل: «هناك شعوب تتذكر أبناءها حتى وهم أموات، وهناك شعوب أخرى تزهق أرواحهم وهم على قيد الحياة»... ثمة انحيازات واضحة للسارد الرئيس تجاه ما هو إنساني وتقدّمي، وحرّ، عبر نصّ تتنوع شخوصه وحكاياه، شخوصه الذين تدور حركتهم حول حركة الشخوص الثلاثة المركزيين. فالشخصيات الهامشية: زينب، نرجس، مريم، ربيع...، هم أبناء لشبكة من العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالشخصيات الثلاث. وتبقى شخصية منصور هي الأكثر تعبيراً عن جوهر الحكاية، ليس لأنه بطلها المركزي، وإنما لكونه الأشدّ تعبيراً عن تلك الرهانات الخاسرة، بدءاً من تمزقه ما بين ثنائية البحر والصحراء، والمدنية والبداوة. وعبر الوعي بالأزمة يتشكّل الأفق الخصب للرواية، المعنية برصد انفعالات البشر وهواجسهم في لحظات فارقة ومأزومة من حيواتهم. وعبر الفضاء الذاتي الذي تخلقه حركة الشخوص، ثمة فضاء عام يسيطر عليه المدّ الرجعي في المجتمع بمظاهره ولوازمه، لنصبح أمام ثنائية جديدة: التقدم/ الرجعية، وتغدو هذه الثنائيات المتعارضة أساساً تنهض عليه بنية الرواية. في «رهانات خاسرة» يلاحظ القارئ أنّ اللغة السردية تخلق بصمتها الأسلوبية الخاصة، فتلامس حدّ الشعر أحياناً، بدءاً من الاستهلال السردي ذاته: «صباحات كثيرة مرّت عليّ ولا شيء سوى التين والزيتون والرمل، شمس الصحراء قاسية تؤنس وحدتي، أشجار التين منتصبة تلوح للسماء، يثقلها حمل من الثمار، وأنا أقطف ثمرات التين يسيل ذلك السائل الأبيض من الشجر، حتى الأشجار تبكي الفراق يا عبدالكريم...» (ص 7). غير أنّ اللغة لدى الكاتب الشاب عليها أن تتخلص من حمولتها العاطفية الزائدة قليلاً، وأن تتخفف من غنائيتها المفرطة في بعض المواضع، لما في ذلك من تعطيل للمسار السردي، وتدفقه، وربما وقوعه في فخ التكرار المجاني أيضاً، مثلما حدث على سبيل المثل في الصفحة17، أو عبر ورود عبارة مثل «أنا من ضيعت في البحر عمري»، وما فيها من اجترار تقليدي لما كان. لذا فعلى البدري أن يدرك ذلك حتى لا يقع في فخ الجاهز من التوصيفات التي تسلمه إلى أفق تكراري محدود. ثمة توظيف لآلية «قتل الأب» في الرواية، نلمحه بارزاً في مقاطع مختلفة منها، من بينها: «لكبار السنّ في قلبي لعنة لا أتوانى عن صبها فوق رؤوسهم كلما سنحت الفرصة. نصائح، تعليمات، أوامر، حكم ومواعظ. محض ثرثرة فارغة عن زمن مخملي عاشوه، كأن الخيبات المتتالية هي نتاج عمل من لم يبدأ حياته بعد، الآباء الصالحون لا ينجبون الرمم البشربة التي تمشي في الشوارع أيها الكهلة الأفاقون». (ص 26). ثمة رفض إذاً لتلك الوضعيات البطريركية القامعة والتي تبدو صورة الأب أحد تجلياتها. في الرواية أيضاً حسّ مولع بالسخرية، بتنويعاتها اللفظية والدرامية، كما أنّ ثمة تلاحماً بين ما يعرف بخط القص الرئيس، وكلام الشخصية المركزية في الرواية، مثلما نرى في (ص 5) على سبيل المثل. ثمة احتفاء بالشخوص الهامشيين في الرواية، وقد تحمل حكاية «ربيع» الذي تحول إلى «ربيعة» قدراً عارماً من المفارقة والأسى والكشف عن ذلك المسكوت عنه في المجتمعات المغلقة. بعد روايته الأولى «حزن البلاد» التي لم تحظ باهتمام نقدي يُذكر، يخطو حسين البدري خطوة جديدة، بروايته «رهانات خاسرة»، غير أنها خطوة وثابة، تصنع تراكمها النوعي الخاص، وبما يجعلنا نراهن على كاتب مصري مختلف، يأتي من رحم واقع متحول وموارٍ، معنياً بالناس، والرفاق، والثورة، والتحولات الاجتماعية العاصفة في المشهد المصري البالغ الثراء والتنوع.