لا يبدو أن المصريين متفائلون بمبادرة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. يتوقع لها كثرٌ أن تلقى مصير كل المبادرات والمساعي الخارجية التي أبقت مصر في «العقبة». كان هدفاً دائماً ل «الجماعة» في سعيها إلى الإطباق على كل مؤسسات البلاد وقد عبرت عن رفضها دعوته. ولا تزال صورته وبابا الأقباط وممثل «جبهة الإنقاذ» الدكتور محمد البرادعي وممثلي قوى أخرى أمام أعين «الإخوان» في حضور وزير الدفاع الفريق عبدالفتاح السيسي وهو يعلن تنحية الرئيس محمد مرسي وقيام إدارة موقتة للبلاد. ويتوقع أن تلقى هذه المبادرة المصير الذي يواجه تحرك البرادعي الذي تصيبه السهام وتكال له الاتهامات من كل صوب، وأقلها الخيانة والعمالة! إطالة الأزمة في ظل غياب أي مبادرة، داخلية أو خارجية، لتحريك التفاهم أو المصالحة التي ينادي بها الجميع ليست في مصلحة طرفي الصراع. فالرصيد الذي حازه تحرك الجيش وهيبة الحكومة الموقتة سيتآكلان إذا لم يخطُ الحكم ووزارة الداخلية نحو فض الاعتصامات في ميدان رابعة العدوية والنهضة وغيرهما من الساحات. والالتفاف الذي ناله «الإخوان» وترجموه حشوداً شعبية في الميادين سيتآكل هو الآخر. فالناس لن تجلس في الشارع إلى ما لا نهاية فيما الأفق مسدود أمام أي تسوية. ولا يعتقد بأن المواجهة أو العنف هو الخيار البديل أو الحل المضمون... وإلا لما تأخرت حكومة حازم الببلاوي وقواها الأمنية في اللجوء إليه تنفيذاً لقرارها في هذا الشأن. فالانقسام القائم عميق ومقلق ويهدد بحرب أهلية إذا وقع الصدام المحظور أو لجأ أحد الطرفين إلى القوة. لا أحد يضمن أن المواجهة ستنتهي بمنتصر ومهزوم. لن يربح طرف الحرب. ستخسر مصر. فال «الجماعة» التي بنت مشروعها المحلي والدولي منذ 80 عاماً لا يمكن أن تقبل بخسارة كاملة لهذا المشروع. لأن سقوطه سيترك آثاراً واسعة على مستقبل الأوضاع في المنطقة كلها، من ليبيا إلى تونس فاليمن وسورية، وحتى تركيا التي كانت تقدم نفسها نموذجاً فإذا هي تتقدم خطوات على طريق... المصريين والتونسيين! ويخشى أن يقع خصوم «الإخوان» في ما وقعت فيه «الجماعة» عندما تصرفت على أساس أن التفويض الشعبي الذي ناله الرئيس محمد مرسي يعفيها من التفاهم أو التشاور مع حلفائها أو منافسيها معاً. في حين أن الوضع القائم لا يسمح لأحد بادعاء احتكار صوت جميع المصريين أو غالبيتهم. هذا التوازن في التمثيل بين طرفي الصراع، أياً كانت أحجامه، ليس وحده ما يدفع إلى الإحجام عن خوض المواجهة. فالصف الإسلامي مقسوم، ومثله الحكومة القائمة التي يتخوف سياسيوها من استخدام القوة التي يدفع إليها بعض القوى العسكرية والأمنية. وبعيداً من انقسامات الداخل، ليس من السهل على القوى الإقليمية والدولية الاكتفاء بموقف المتفرج حيال انزلاق مصر إلى دورة عنف مفتوحة. الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي اللذان عجزا حتى الآن عن إحداث اختراق في جدار الأزمة، ليسا في وارد غسل اليدين. وليس في مصلحة الدول العربية التي تدعم خطة الطريق أن ترى إلى مصر تغرق في الدماء وتشارف على الانهيار الكامل، لأنها لن تكون بمنأى عن نتائج مثل هذا الانهيار أو الفوضى، في حين تواجه تحديات كبيرة خصوصاً في الصراع المعلن بين معظم أهل الخليج والجمهورية الإسلامية. وتواجه احتمال تفتت وانهيار في سورية سيلقيان بظلهما الثقيل على لبنان والعراق والأردن. وفوق هذا وذاك يبدو الإقليم منقسماً هو الآخر: الاتحاد الأفريقي علّق عضوية مصر. ولا يمكن الحديث عن موقف عربي جامع، فالدول العربية والخليجية منقسمة حيال ما يحصل. تونس دانت «انقلاب» العسكر وتتقدم لمواجهة المشكلة نفسها. والنظام السوري لم يجد غير الترحيب بخطوة العسكر! وفيما عبرت أنقرة عن إدانتها واستنكارها، بدت طهران مرتبكة تحذر من حرب أهلية وتدخلات خارجية. كان متوقعاً أن تمارس الإدارة الأميركية دالتها على قيادات «الجماعة» من أجل إنقاذ «الإخوان» أولاً، وإنقاذ مصر ثانياً، وإعادة ترميم المشروع الإسلامي كله على مستوى الإقليم ثالثاً، والذي كانت تعول عليه أساساً لنظام إقليمي جديد بمقدوره تشكيل سد منيع للحد من نفوذ الجمهورية الإسلامية ومنع تقدم الصينيين والروس! لكن ارتباك واشنطن وحذرها المبالغ فيه أصابا سياستها وقراراتها بالشلل، ليس حيال ما يجري في مصر فحسب بل حيال كثير من قضايا المنطقة، من الأزمة السورية إلى الملف النووي الإيراني... ناهيك عن قضايا دولية أخرى من كوريا الشمالية والمحيط الهادئ إلى آسيا الوسطى وغيرها. وهو ما جعل إدارة الرئيس فلاديمير بوتين تقتنص فرصة هذا الارتباك والتردد في محاولة لاستعادة مكانة لروسيا ضاعت في الفوضى السياسية والأمنية والاقتصادية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو ما سمح بعودة الحديث عن حرب باردة تنهي قيادة القطب الواحد للعالم. لا يعني هذا الواقع تزكية لتدخل دولي في ظل وقوف المصريين في العقبة. إن مبادرة داخلية، من جانب شيخ الأزهر أو أي قوة أخرى، تظل أفضل بكثير من أي مبادرة تقودها الإدارة الأميركية أو الاتحاد الأوروبي. ألا يكفي ما أفضى إليه التحركان الأميركي والأوروبي الأخيران من تعميق للانقسام والتشرذم ومن تصعيد للمواقف؟ إضافة إلى أن التدويل تقابله حساسية مفرطة من جانب المصريين جميعاً قد يدفع إلى مزيد من الاستقطاب والتخبط من دون أن يقدم حلولاً ناجعة ودائمة. ألا يكفي مثالاً ما خلفه التدويل في ليبيا وفي اليمن، وما يخلفه اليوم وفي سورية التي لا تتوقف فيها آلة القتل، فيما تتعمق الهوة بين مكونات الشعب السوري، الطائفية والمذهبية والعرقية... على مذبح الصراعات الإقليمية والحرب الباردة التي تطل برأسها بين الولاياتالمتحدة وروسيا؟ التهيّب من مغامرة اللجوء إلى القوة يجب أن تكون دافعاً إلى البحث عن مخرج يحفظ ماء وجه كل طرف. ولعل البداية تكون بإقرار الطرفين بحقائق لا يمكن القفز فوقها. تبدأ أولاً بوقف الخطاب السياسي التصعيدي من كلا المعسكرين. ثم وقف الأعمال الانتقامية التي تمارسها قوات الأمن أو عناصر من «الجماعة»، تمهيداً للبحث عن قواسم تدفع إلى طاولة حوار تنتهي بمصالحة حقيقية تفيد من أخطاء الماضي القريب والبعيد وأخطاء الحاضر أيضاً. ولا شك في أن إطلاق المعتقلين من «الجماعة» والتيارات الإسلامية الأخرى يجب أن يكون مقدمة لمثل هذا الحوار. على أن يعلن «الإخوان» سلفاً أن العودة إلى الماضي القريب باتت من الماضي. ويعلن خصومهم أن خيار إقصاء القوى الإسلامية وعلى رأسها «الجماعة» يبدو مستحيلاً. واللجوء إليه بالقوة مغامرة محفوفة بأخطار جمة لن تبقي شيئاً في مصر. وهذا وحده كفيل بالعودة إلى اللعبة السياسية المفتوحة أمام الجميع بلا عزل أو استثناء، ومن دون استقواء أكثرية على أقلية. تجنيب مصر أخطار التدويل تبدأ بالعودة عن أخطاء الماضي وهي كثيرة، ولا يحتاج طرفا الصراع إلى تذكير بها. ظن الرئيس مرسي و «جماعته» أن الازدواجية في إدارة شؤون البلاد انتهت عندما أعفى الرئيس قبل حوالى سنة كبار قادة المجلس العسكري، وعلى رأسهم وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي ورئيس الأركان الفريق سامي عنان. لم يدركا أن المؤسسة العسكرية ظلت طوال ستين عاماً، بل أكثر، الشريك الأساس في إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً، وأن إطاحة مجلسها الذي أدار البلاد إثر رحيل الرئيس حسني مبارك لم يكن لها أي تأثير في قدرة الجيش على العودة للإمساك بمفاصل الحكم مباشرة أو مداورة على جري عادته منذ «ثورة 1952». ولم يعيرا اهتماماً بشركاء «ثورة 25 يناير» أو بالأحرى بمطلقي شرارتها. ولم يلتفتا إلى مخاوفهم ومخاوف الأقليات من تغيير هوية الدولة، سواء في صياغة الدستور أو في الإجراءات الإدارية، عملاً بسياسة «التمكين» «الإخوانية». ولم يستمعا إلى الدعوات إلى تغيير الحكومة التي فشلت في معالجة شؤون الناس اقتصادياً واجتماعياً... وأخيراً لم يعر مكتب المرشد بالاً لحجم الاعتراض الشعبي في «الثورة الثانية» يوم 30 حزيران (يونيو)... لكن كل هذه الأخطاء القاتلة التي أفقدت «الجماعة» شرائح واسعة من قواعد شعبية وازنة كانت أعطتها أرجحية منذ اندلاع «ثورة 25 يناير»، لا يمكن أن تغيّب حضورها الباقي والمؤثر. ولا شك في أن المجلس العسكري و «جبهة الإنقاذ» وحركة «تمرد» وخصوماً كثراً لم يقدروا حجم رد فعل «الإخوان»، على رغم كل الإجراءات التي اتخذتها أجهزة الدولة الأمنية والقضائية. من احتجاز الرئيس إلى اعتقال عدد من قادة «الجماعة» وقيادات إسلامية أخرى. ومن إقفال عدد من وسائل الإعلام الخاصة بهم إلى منع سفر قيادات وملاحقة آخرين وإحالة بعضهم على القضاء. وهو ما يجعل الحديث عن إمكان إقصاء القوى الإسلامية وعلى رأسها «الجماعة» يكاد يكون مستحيلاً. لا يبقى أمام الطرفين لفتح باب المصالحة سوى الاعتراف المتبادل الذي يبدأ بطي صفحة الماضي. أما تمسك «الإخوان» بإعادة مرسي إلى كرسيه فمطلب بعيد من الواقع. وأما خيار إقصاء «الجماعة» فليس خياراً سهلاً. فهل يلتقي الطرفان في حكومة جديدة يتمثل فيها الجميع، وتستعجل تنفيذ «خريطة الطريق»، معتبرة من أخطاء الماضي؟ الطريق للخروج من العقبة وشبح التدويل: أن يتخلى الطرفان عن الاستقواء بشرعية تمثيل أكثرية الشعب المصري أياً كان حجم هذا التمثيل وصحته... والتسليم بما آلت إليه «الثورة الثانية» كما سلموا من قبل جميعاً بما آلت إليه «الثورة الأولى»، وبمساندة العسكر في... 25 يناير وفي30 يونيو!