لم يعد الصراع في مصر على موقع الرئاسة. قبل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية جاءت قرارات المحكمة العليا والمجلس الأعلى للقوات المسلحة لتقلل من هذا الموقع. لذلك، لن يغير الرئيس الفائز محمد مرسي الواقع الجديد الذي نشأ في الأيام الأخيرة. ولن يبدل في الخريطة السياسية الجديدة. ولن يخفف من وطأة الانقسام وعمقه. تجاوز الاستقطاب القوى الحزبية والمؤسسة العسكرية إلى شرائح المجتمع بكل فئاته. فالأرقام المتقاربة التي حصل عليها كل من الفريق أحمد شفيق والدكتور مرسي خير دليل على حدة المأزق الذي يواجهه المصريون. كان المصريون يخشون أن يحتكر «الإخوان» السلطة. أن يقبضوا على كل السلطات بالقبض على مجلسي الشعب والشورى واللجنة التأسيسية للدستور والحكومة والقضاء وأخيراً الرئاسة. لكن ما حصل في الأيام الأخيرة أن السلطات كلها ومعها المؤسسات عادت الإمرة فيها والقرار إلى المجلس العسكري. لم تعد الثورة بين المصريين، عامة المصريين، والنظام السابق. باتت بين طرفين: الجيش والقوى الإسلامية وعلى رأسها «الجماعة». كأن الثورة لم تحدث أو هي في أيامها الأولى. ما تحاشته الثورة قبل سنة ونصف تواجهه اليوم. وستشهد المرحلة المقبلة صراعاً مريراً على مفاصل الحكم. بداية لا بد من الاعتراف بأن لكلا الطرفين القويين اليوم الفضل في إطاحة رأس النظام. لو وقف الجيش وراء الرئيس حسني مبارك وحزبه «الوطني» وجماعته لربما كانت مصر غرقت في ما تغرق فيه سورية حالياً. ولو أن «الإخوان» لم يندفعوا بثقلهم وتنظيمهم وكادراتهم لما شهدت الميادين هذه الملايين التي دفعت المؤسسة العسكرية إلى تحاشي الصدام. فضل الجنرالات التضحية بالرأس. ولم يكن أمام أهل الميادين سوى التسليم لهم بقيادة المرحلة الانتقالية، لكي يأتي التغيير سلساً بلا فوضى وانهيارات. يمكن رد نتائج الانقلاب الذي حصل في الأيام الأخيرة إلى سياسة التكاذب والمهادنة والمناورات والتقية التي مارسها الطرفان المتواجهان اليوم في طول ساحات مصر وعرضها. كان المجلس العسكري أثناء الفترة الانتقالية يتقدم خطوة أو خطوتين ليتراجع بعدها خطوة كأنما أصابه ارتباك. وكان «الإخوان» يناورون في خطواتهم، بإيهام الجيش من جهة بأنهم يختلفون عن شباب الميادين وجاهزون لأي صفقة، وبإيهام هؤلاء الشباب من جهة ثانية بأنهم في صلب الثورة. وكان كلا الطرفين يعمل لهدف واحد هو سياسة التمكين والإمساك بالأرض، بعد الإمساك بمواقع القرار. هذه المرحلة الغامضة، أو التي تعمد فيها الطرفان سياسة الغموض وما شهدته من إرباكات وانتكاسات وكرّ وفرّ طويت. بات الصراع مكشوفاً وواضحاً لا لبس فيه. والأهم أن المشهد السياسي اختلف كثيراً عما كان عشية 25 يناير من العام الماضي. أطلق المجلس العسكري مواقف ووعوداً بتسليم السلطة إلى المدنيين لتحاشي المواجهة المباشرة مع الميادين. وكان يمرر الوقت فيما الأوضاع العامة تعمل لمصلحته: من تفاقم انعدام الأمن والاستقرار إلى اشتداد الأزمة الاقتصادية وما تخلفه في أوساط المصريين الذين يعيش نصفهم تحت خط الفقر. كان ينتظر تبدل الظروف وانفكاك المواطنين العاديين عن الثورة وقواها. ومثله أطلقت «الجماعة» مواقف ووعوداً لم تلتزمها. عمقت انعدام الثقة ببرنامجها في أوساط الذين أطلقوا الشرارة الأولى. استعجلت الوصول إلى الصناديق لقطف ثمار التغيير لحسابها. فلا عرفت كيف تشرك الآخرين، كل الآخرين في المواقع التي احتلتها ومكنتها من تصدر المشهد. بايعت العسكر في الإعلان الدستوري الأول العام الماضي ولم تراعِ رغبة الشباب في تأخير الانتخابات حتى يتسنى لهم تنظيم صفوفهم في أحزاب وتشكيلات تتيح حداً أدنى من تكافؤ الفرص فزرعت في صفوفهم الشك والارتياب. وهو ما أفاد العسكر ودفع قوى مهمشة إلى الالتفاف حولهم. استأثر «الإخوان» بالمجلسين ثم باللجنة التأسيسية للدستور الجديد وخاضوا انتخابات الرئاسة كأنهم لا يريدون أن يتركوا لأحد سواهم موقعاً. هذه الوقائع الجديدة كشفتها الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وهي وقائع خطيرة. مصر باتت مشطورة بين قوتين قادرتين على خوض صراع طويل ودامٍ. هذا الانقسام السياسي الحاد امتد إلى كل شرائح المجتمع. فالفائز مرسي لا يمكنه بعد اليوم أن يتجاهل أن نصف المجتمع المصري لم يختره لهذا الموقع. ولا مفر من أن يعترف أحد الطرفين القويين بالآخر من أجل تجنيب البلاد صداماً مدمراً، بل من أجل استعجال التهدئة قبل أن تنفجر الأزمة الاقتصادية في وجه الجميع. لا يمكن «الإخوان» أن يلغوا ما بات يمثله الفريق شفيق. ولن يكون في مقدورهم أن يمارسوا أساليب الضغط التي كانت لهم في البدايات. فالجنرالات باتوا يتمتعون بشرعية شعبية ظهّرتها حملة الفريق شفيق يمكن أن يستندوا إليها في المواجهة... فضلاً عن إمساكهم بكل مفاصل السلطات والمؤسسات، العسكرية والأمنية والتنفيذية والاشتراعية وحتى القضائية حيث يبدو أن الانقسام بات يطاول الجسم القضائي. وفضلاً عن استنادهم إلى الإعلان الدستوري المكمل الذي سيكون عنوان الصراع في هذه المرحلة. بل إن خوف المواطنين من استمرار التدهور في كل القطاعات سيدفعهم إلى الالتصاق أكثر فأكثر بالمؤسسة العسكرية التي عرفت كيف تقدم نفسها ملجأ لا غنى عنه منذ سقوط رأس النظام السابق، ملجأ لكل الخائفين، الخائفين من الإسلاميين، والخائفين من الانهيار الاقتصادي والانهيار الأمني، والخائفين من رياح الطائفية... لكن العسكر، مع كل هذه «الشرعيات» التي يمتلكونها، لن يكون في مقدورهم أن يتجاهلوا قوة خصومهم من كتل ثورية وأحزاب إسلامية، أو أن يتجاهلوا التغيير الذي طرأ على المزاج المصري العام بعد ثورة 25 يناير، والذي يتجلى كل يوم في ميدان التحرير وفي كل المدن. لم يعد سلاح التخويف والتلويح بالقوة قادراً على إسكات الجموع وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. من حق المصريين أن يخافوا الانزلاق إلى التجربة الجزائرية. أو الذهاب إلى التجربة السورية كأن الثورة اندلعت أمس. كان ممكناً أن يستقيم الوضع، وأن يقوم نوع من التوازن لو أن قوى التغيير التي فجرت الثورة توحدت في جسم متماسك لتشكيل قوة ثالثة لها قواعدها. لربما كانت الأوضاع تبدلت وسارت في غير الوجهة التي انتهت إليها. ربما كانت كل القوى اهتدت إلى صيغة لا تقع فيها البلاد بين فكَّي كماشة لاستئثار طرف واحد أحد بالقرار ومواقعه. لم يفت الأوان لوقف الانزلاق إلى المواجهة. يجب أن يتوافق الطرفان القويان على صيغة تأخذ في الاعتبار كل المستجدات التي طرأت في الأشهر ال16 الأخيرة. يجب ألا يبقى مكان لسياسة الإلغاء. يمكن العودة إلى النموذج اليمني. أو يمكن ابتداع صيغة مصرية خالصة تبدأ بتخلي العسكر و «الإخوان» عن سياسة المناورة وسياسة التمكين والسعي إلى الهيمنة والتسلط. يمكن التوافق على مرحلة انتقالية جديدة توزع فيها السلطات بين كل القوى ما يطمئن الناس إلى مستقبل مصر بدل الحشد في الميادين أو التمترس في الثكن والمؤسسات التي تعود أصلاً للمدنيين! لم يعد بمقدور طرف أن يلغي طرفاً. ولم يعد بمقدور الطرفين القويين أن يلغوا باقي الأطراف لئلّا يتعمق الانقسام. ولن يكون بمقدور طرف أن يكتب الدستور الجديد وحده. بل لن يكتب الدستور الجديد ما لم يتوافق الجميع على أن كتابته لا تستند إلى قوة هذا الطرف أو ذاك، بمقدار ما تستند إلى توافق لا بد منه بين كل مكونات الشعب... لا بد من صنعاء وإن طال ليل القاهرة! فهل خطا العسكر و«الإخوان» نحو صفقة مرحلية جديدة يتولى فيها مرسي الرئاسة على أن تقبل الجماعة بالقرارات الأخيرة، من حل مجلس الشعب إلى احتمال حل اللجنة التأسيسية... في انتظار جولة جديدة من الصراع.