يجر حقيبته بيمينه ويمشي متمهل الخطى، ترافقه الكاميرا من الخلف وكأنه ماضٍ في رحلته إلى غير رجعة. يمشي في شوارع بيروت وساحاتها بحثاً عن أبنائه، وفي باله أن العودة إلى منزله الدمشقي ستكون قريبة. يشد حقيبته بيده، لا يفرط فيها ولا يسهى عنها لحظة. يتخطى بها الحواجز الكثيرة التي تملأ دربه من دمشق إلى بيروت، من غير أن يتأفف منها. ومع أن ليس فيها ما يمكن أن يراه الآخرون قيماً، ظلت الحقيبة بالنسبة إلى هذا الرجل المسن أشبه بشهادة حياة. نراها ترافقه منذ أن غادر سورية، وكأن الحقيبة أضحت طيف الشخصية أو ظلها. فيها يضع الأب صور عائلة اعتنى بها طوال حياته كي تنمو وتزهر. وفيها أيضاً أكياس «القضامة بالسكر» و «قباقيب غوار»، هدايا لأبنائه الذين لا يزالون أطفالاً في عينيه. إنه يجر الحقيبة وكأنه يجر وطناً. يزور «أبو سامي» (دريد لحام) أبناءه من غير أن يخبرهم بأنه جاء إلى بيروت أصلاً. لكي، يصورهم في لحظات الدهشة، أو الصدمة. لكنه يصل في ذروة التأزم الدرامي، ليجد أن كل واحد من أولاده مشغول بمشاكله الخاصة. لم يكتشف الأب، حتى كتابة هذه السطور، حجم المشاكل في حياة أبنائه، ولا الشرخ الذي يفصل بين الإخوة، مع أنهم موجودون في البلد ذاته. وهنا يمكن القول إن عائلة «نجيب» هي رمز سورية التي انقسمت بين أبنائها، حتى أخذ كل فرد يتخبط بمشاكل أكبر منه، تراكمت حتى تحولت إلى ورمٍ مستعصٍ. حاول كل واحد من الأبناء الستة أن يخفي حقيقة الأزمة التي يعيشها داخل منزله أمام الوالد المبهور بنجاح أولاده وأحفاده. «دينا» (نادين الراسي) على وشك الطلاق، «كريم» (باسل خياط) يخون زوجته (سلافة معمار) مع مديرته في العمل (كارمن لبس)، «فؤاد» (قصي خولي) يتعامل مع مافيا خطيرة. أما «راجي»، الفنان المكتئب (رافي وهبي)، فمتورط مع فتاة سورية نازحة (دانا مارديني)، عطف عليها وحماها من وحوش الطرقات، حتى أحبها وتعلق بها. واللافت أن المشاهد التي جمعت «راجي» و «مريم» كانت من أقوى مشاهد المسلسل في نصفه الأول، وفيها لمس المشاهد توهجاً في أداء ممثليْن لم يكن لمع نجمهما سابقاً في الدراما السورية، هما وهبي (مؤلف العمل) ومارديني (بائعة الورد السورية). ترك الأب المريض منزله الدمشقي على أمل أن يعود إليه بعد أيام، خوفاً على ياسمينة الدار من أن تجف وتموت. فهو لم يتقبل فكرة «الهروب» بمعناها الحرفي، لكنه أمام فظاعة الواقع وقسوته، كان يهرب من حقيقة ما يسمعه ويراه إلى الماضي، إلى زمن الطفولة والبراءة. الصور هي السلاح الذي اتخذه الأب لمحاربة حاضرٍ مرعب. يتأبط ألبومات الصور أينما ذهب وكأنها العصا التي يتكئ عليها كي يتمكن من متابعة حياة لا براءة فيها ولا حب. وقد تكون شخصية الأب «نجيب»، من أكثر شخصيات المسلسل اكتمالاً ونضجاً بالمعنى الدرامي. وجاء أداء دريد لحام ليزيدها كثافة وتميزاً، لأن الممثل الكوميدي المحترف حين يجسد شخصية درامية مشحونة بكميات من الحنين والشجن، يغدو أحياناً أكثر تأثيراً في نفوس المشاهدين من الممثل المعروف بهذا النوع من الأدوار. على مدار حلقات المسلسل المقتبس عن الفيلم الإيطالي «الجميع بخير»، يكتشف المشاهد أن لا أحد في هذه العائلة بخير. فالأبناء، الذين طالما افتخر بهم الأب أمام جيرانه ومعارفه والناس، لا ينعمون بأفضل حياة كما كان يعتقد، ومع أنه منحهم وأمهم المتوفاة كل الحب والحنان، هم ليسوا متقاربين. يغوص المسلسل في مشاكل النازحين السوريين في لبنان، لكنه يحاول تقديم صورة لما يحدث داخل سورية. وهو يسعى، منذ الحلقات الأولى، أن يعرض وجهة نظر محايدة للصراع في سورية. بعض الشخصيات تسمي ما يحصل في سورية «ثورة»، وبعضهم الآخر «أزمة»، لكن الأحداث العامة تومئ أخيراً إلى أن المشكلة ليست في التسمية، وإنما في الكارثة الإنسانية التي يعيشها السوريون، بعيداً عن مواقفهم. مع وجود بعض الثغرات في المسلسل، لا سيما تطويل بعض المشاهد والحوارات وتكرارها، يظل «سنعود بعد قليل» (إخراج الليث حجو) من أبرز المسلسلات التي تلامس الواقع، لا سيما أنه يبرر الإستعانة ببعض الممثلين اللبنانيين وبتصوير مشاهد المسلسل في لبنان، انطلاقاً من كونه يرصد حال النازحين السوريين في لبنان؛ عطفاً على أنه عمل يحاكي الواقع الذي لم يعد يحتمل خفة الأعمال الكوميدية، ولا فنتازيا أعمال البيئة الشامية. فالقصة لم تعد مجرد مشكلة في حارة، وإنما كارثة حقيقية بحجم الوطن.