(هذه أوراق غير متناسقة استلت من مشروع روائي قيد التأليف في عنوان «آه، بغداد») اسمي الروائي هو محاسن الديواني. أما اسمي الحقيقي فهو معروف، ولا أريد أن أكشف عنه لئلا تصبح هذه الأكتوبة سيرة ذاتية، مع أن قصتي التي سأرويها كان يمكن أن تكتسب صدقية أكثر لو تمسكت باسمي (أو لقبي) الحقيقي. أنا عائدة إلى العراق في زيارة موقتة من الولاياتالمتحدة التي لجأت إليها أنا وعائلتي قبل عشرين عاماً. عدت لأنجز معاملة التقاعد لزوجي الدكتور (في القانون) فاضل شهاب الماجد، المتوفى حديثاً. وأجمع أوراقه ومخطوطاته بأمل طبعها. فهو كان من ألمع الحقوقيين في العراق والعالم العربي. وأنا جئت أيضاً لألقي آخر نظرة على آثار ما تبقى لنا ومنا، نحن آل الديواني، فقد كان أجدادي يملكون نصف بغداد بجانبيها الغربي والشرقي، ولم يبق من ذلك كله شيء. كانت عمان محطتي الأخيرة إلى بغداد، تأخرت فيها يومين التقيت في أثنائهما بصديقتي الكاتبة سلمى العزاوي وزميلين لزوجي أحدهما دكتور في القانون أيضاً، والآخر دكتور في العلوم السياسية، أمضيت في صحبتهم سهرة صاخبة في أحاديثها السياسية. ثم توجهت إلى بغداد من طريق البر ليس بلا قلق من احتمالات الاختطاف، لأنني مقيمة في الخارج، وهذا يرفع سعر الفدية. عدت لأرى بغداد أقبح مما كانت. حواجز إسمنتية في كل مكان، وأسلاك كهربائية كريهة المنظر مدلاة في جميع شوارع العاصمة. إنها كهرباء الموتورات الأهلية. لماذا، وبعد عشر سنوات من «التغيير»؟ لكنني جئت بمشاعر من النوستالجيا وليس من التشكي. أريد أن أرى الشارع الذي ولدت فيه، أو الشيء الذي حل محله. وأرى ما بقي من ذاكرتي وذاكرة أجدادي. فليس يضير أنني أنتمي من جهة أبي إلى جذور تركية، ترقى إلى ثلاثمئة عام. عائلتنا تحتفظ بوثيقة تملّك ترجع إلى عام 1774 ميلادي، أي قبل الثورة الفرنسية. في غضون ذلك نسينا كل ما له صلة بأرومتنا التركية، وغيرنا طائفتنا من المذهب السنّي إلى المذهب الشيعي. أنا الآن لا أنتمي إلى أي منهما. لكن وثيقة التملك، التي أحتفظ بنسخة منها، تلفت نظري إلى أشياء مذهلة. من بينها أننا كنا نملك نصف جانب الكرخ، بما في ذلك منطقة الصالحية وما فوقها إلى كل الجهة الغربية من بغداد، بما في ذلك المنطقة التي تشتمل على متحف الآثار، ومطار المثنى، والحارثية، والقادسية، إلى طرق المسعودي. وكذلك منطقة كرادة مريم. وكان القصر الجمهوري والمنطقة الخضراء أرضنا. وأكد عمي أكرم (وهو أصغر أعمامي) أن العائلة المالكة العراقية صادرت أرضنا في الحارثية، وبنت عليها الدور التي أصبحت ملكها. وعندما ذهب إلى دائرة الطابو لكي يثبت حقنا، وجد الأوراق منتزعة من دفتر السجلات. نحن كنا نملك ذلك كله، ولم يكن في وسعنا استعادة ما سرق منا. لكن أراضي السكك الحديد التي تمتد من الحارثية إلى شاطئ دجلة تم انتقال ملكيتها من والد جدي إلى الألمان بصورة شرعية. وكان والد جدي يملك نصف جانب الرصافة، وهذا تمت سرقته أيضاً، بطريقة «شرعية»، تم اللجوء فيها إلى حيل بالتواطؤ مع مسؤولين في السلطة. لا أريد أن أدخل هنا في التفاصيل، لأنني جئت لألقي آخر نظرة على الشارع الذي ولدت فيه، وكان يدعى باسم عائلتنا بعد أن انتقل جدي من باب الشيخ عبدالقادر إلى هذا الشارع الذي كان يتوسط «البستان»، بستاننا، الذي يقع جنوب أرض السكك مباشرة. وأنا أطلقت على شارعنا هذا اسم شارع العجائب. قبل أن يشق «شارع العجائب»، توفيت زوجة جدي الأخيرة (لم يتزوج أكثر من امرأة في آن واحد)، وخطب ابنة المشرف على إدارة أملاكه، وكانت جميلة جداً، أورثتني خضرة عينيها. فاشترطت عليه أن ينتقل من الزقاق في باب الشيخ، ويبني لها قصراً منيفاً. فبنى لها قصراً في بستانه في كرادة مريم مقابل نهر دجلة. وباع أقاربنا قطعاً من الأرض إلى رجلين يهوديين هما خضوري وحييم، وإلى والد ستيفان الأرمني الذي كان قنصل روسيا القيصرية في بغداد. هؤلاء بنوا قصوراً على الأرض التي اشتروها. وعندما دخل البريطانيون بغداد في الحرب العالمية الأولى أقامت قيادة جيشهم في قصري خضوري وحييم. وشق شارعنا ابتداء من قصر خضوري وانتهاء بشارع كرادة مريم. وبعد إخلاء القيادة البريطانية قصر خضوري، أقام فيه رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، الذي أظنه انتحر فيه. كان عمي أكرم يذكر كيف أنه كان ينتقل من شريعتنا إلى جانب الرصافة بزورق عليوي البلام. كان زواج أبي وأمي في عام 1927، وكان الزواج متكافئاً في مستواه الاجتماعي أو الطبقي. فأمي تنتمي إلى عائلتين وجيهتين من جهتي أبيها وأمها. وعند زواج والديّ أهدى جدي من جهة أمي إلى أبي ساعة جيب ذهبية من طراز أوميغا، هي الآن في حوزتي. وعندما أصلح أخي زجاجتها الداخلية المكسورة في جنيف، قيل له لا توجد الآن منها سوى ساعة أو ساعتين في سويسرا. لكن الهدية الأثمن هي التي قدمها النائب في البرلمان في العهد الملكي عبدالرزاق شريف إلى أمي، وهي علبة سكاير ذهبية مرصعة بالماس قيل إنها كانت هدية من ملك الإمبراطورية البريطانية إلى عبدالرزاق شريف، تكريماً له على خدمات أبيه التي قدمها إلى بريطانيا في أيام الحرب العالمية الأولى. فقد والى أبوه الإنكليز وحارب الأتراك، الذين نفذوا الحكم عليه بالإعدام. وبعد انتصار بريطانيا، تم تكريم ابنه بهذه الهدية وبأشياء أخرى. لكن عمي أكرم، الرجل المدلل في عائلة الديواني، أراد أن تكون هذه العلبة الثمينة في حوزته، فأهداها أبي إليه. ومما حز في نفس أمي أن عمي أكرم أهدى هذه العلبة فيما بعد إلى الفنانة عفيفة اسكندر. أمي كانت تدخن، وأذكر أنها استعاضت عن هذه العلبة بأخرى فضية. وأنا كان يسعدني جداً أن تنتقل هدية ملك بريطانيا إليّ. وأنا أستطيع أن أحبر عشرات الصفحات عن عمي أكرم الذي أصبح عميد آل الديواني بفضل ثرائه الفاحش، بعد أن بدد كل ما يملك في شبابه على فاتنات طهران وفناناتها. في البدء أفسده دلال أمه وأبيه. كان أبوه يلبسه أفخر اللباس ويضع على رأسه الفينة النمسوية ليصبح أفندياً، ويصطحبه معه إلى مقهى البيروتي، ملتقى وجهاء بغداد. وكانت أمه ترافقه إلى باب القصر، لتمسد على كتفه، وتودعه بكلمتي «محصن، ابني». وعندما أدركت الوفاة جدي، أمسك بيد أبي وهو على فراش الموت، وقال له: «سأترك أخاك الصغير أكرم أمانة بيدك». فلم ينس أبي هذه المناشدة. وكان هو الذي هرع ليعود به من طهران بعد أن وصله خبر أن أخاه لم يبق لديه قرش ليدفع أجور الرحلة إلى بغداد. ثم سرعان ما أفاق عمي أكرم من لهوه، وبدأ بتكوين نفسه، ليصبح واحداً من أثرى أثرياء بغداد. وأنشأ علاقات مع كل رجالات العهد الملكي، عدا نوري السعيد الذي رفض قطعة الأرض التي أهداها إليه عمي... ولم يتخلَّ عمي عن علاقات المودة والرعاية مع الفنانات العراقيات. أخبرتني نوال ابنته أنه كان يساعد المغنية سليمة مراد بمبلغ تستلمه كل شهر عندما كانوا في لبنان. وفي بيروت بنى في خلدة قصراً جعله الإسرائيليون مقراً لقيادتهم العسكرية عندما اجتاحوا المدينة في 1982. وبعد ذلك نسف الفلسطينيون قصر خلدة، ولم يبقوا له أثراً. لعل شارعنا هو أول شارع داخلي يُشق في منطقة كرادة مريم. لا أعلم علم اليقين بذلك، لأن الشهود لم يعودوا على قيد الحياة. وكان أبي، جلال الديواني، أول من ابتنى داراً عليه، في واقع الحال دارين. أقمنا في أحدهما وأجرنا الثاني للعمال المصريين الذين ساهموا في بناء السفارة الإيرانية، التي لا تزال مفخرة في فن العمارة. ولا أزال أذكر قوامهم الطويل بالجلابية مع عمة صغيرة في رؤوسهم. وعندما أنهوا عملهم، قالوا للكلبة التي كانوا يحتفظون بها: «الوداع يا وردة». ولا أذكر ماذا كان مصير وردة، فعوائلنا لم تكن تربي كلاباً. ثم ابتنى عمي عباس مقابل دارينا بناء أطلق عليه اسم البقجة، وهي كلمة لعلها فارسية أو تركية. هذه البقجة لم تكن بيتاً كسائر البيوت، بل كانت بناء يشتمل على غرفتين (أو أكثر)، مع المرافق الأخرى، وبقية المساحة، وهي ليست صغيرة، كانت حديقة، أو بستاناً في واقع الحال، زرعت فيه جميع أصناف الأشجار المثمرة. ولم يكن يسكن فيها أحد، بل كان عمي عباس يدعو إليها مرة أو مرتين في الشهر ضيوفاً بعضهم وزراء والبعض الآخر موظفون كبار، مع عدد من المغنيات والراقصات. ولم يكن متاحاً لنا الاقتراب من هذه البقجة. وعندما بنى عمي محمد داراً ملاصقة للبقجة أصبح في وسع أخي وليد الذي يكبرني أن يرى هو ولداته من سطح الدار ما كان يجري في البقجة. كان شيئاً لا مثيل له، نساء نصف عاريات كن يقمن بحركات راقصة على أنغام الموسيقى. منذ ذلك اليوم أدركنا أن جسد المرأة شيء يدير الرأس. فبعد عشرين عاماً قتل قريبنا صادق خارج ملهى «ليالي الصفاء» الذي تعود ملكيته إلى آل الديواني، في شجار حول الراقصة (أو المغنية) نهاوند. ثم خصص عمي عباس البقجة إلى ابنه البكر كريم ليدرس فيها بعد أن أنهى الدراسة الثانوية ودخل كلية الحقوق. وكان كريم أول متخرج من آل الديواني، فقد أنهى دراسة الحقوق في 1941، وعين مدير ناحية في لواء العمارة بتوصية من صالح جبر صديق عمي عباس. في غضون ذلك بنى أعمامي وعماتي دوراً لهم في شارعنا. ولا أريد أن أنسى أن بيتنا كان أول بيت تدخله الكهرباء، وإسالة الماء. وأول بيت بني فيه حمام. فكان أقاربنا يتحممون فيه كل يوم جمعة (في الشتاء). وكان هناك منزع ملابس ملحق بالحمام. وكنا نقدم الرمان والنومي (الليمون الحلو) بعد الاستحمام، وهو من طقوسنا العراقية التي انقرضت الآن على ما أحسب. وفي عام 1941 احتلت بريطانيا بغداد مرة أخرى بعد حرب رشيد عالي الكيلاني. وعسكر جيشها في أرضنا. وجعلوا من البقجة وبيت عمي محمد الملاصق لها مركز القيادة لمعسكرهم، وأصبحوا جيراناً لنا. وكانوا في نهاية كل شهر يحيون حفلات غنائية صاخبة حتى الصباح، تغني فيها سليمة مراد. ولا ننسى احتفالهم الصاخب يوم انتهاء الحرب العالمية الثانية، وصور هتلر التي أحرقوها في النيران المتوهجة وسط المعسكر. وبعد رحيلهم استأجر البقجة مثقف يهودي لم نعرف عنه شيئاً، لكنه حين كان يصادفني خارجة من بيتنا، يستوقفني ليأتي لي بشوكولاتة من داخل بيته. ثم غاب ذات يوم، وبعد أشهر أو سنوات علمنا أنه أعدم مع يوسف سلمان (فهد) ورفاقه. كان اسمه يهودا صديق. أوراقي البغدادية ستمتد في سردياتها إلى يومنا هذا. لكنني سأتوقف الآن عند آخر ذكر للبقجة. بعد انتهاء عهدها كمسرح أو كباريه خاص ومقصور على علية القوم، صار في وسعنا أن ندخلها، ونتفيأ بفيء أشجارها الظليلة، ونقطف من ثمارها اللذيذة، لا سيما النبق والتين الأصفر المذهل في حلاوته. وكانت الآن، أعني بعد موت آخر مستأجر لها، وبعد موت عمي عباس في عام 1949، تحت تصرف أمير ابن عمي عباس الثالث. وأمير هو بمثابة أخ لي، وأنا أكن له حباً لأنه أنقذ أخي وليد من الغرق عندما كان عمر أخي ثماني سنوات. وهذا جعلني أشعر بدين كبير له، وأغض الطرف عن شطحاته. وأمير هو دون جوان آل الديواني بحق. له فيزيونومية ممثل، لهذا ظل عمره يحلم في أن يصبح ممثلاً من مستوى الممثلين المصريين المشهورين. لكنه لم يستطع النجاح في امتحانات البكالوريا المتكررة للدراسة الثانوية على رغم أن أخي ساعده في دراسة مواضيع الرياضيات والفيزياء واللغة العربية. أخي وليد كان مفخرة آل الديواني في دراسته. مع ذلك كان أمير ذا قابلية هائلة في كسب ود البنات، حتى الأجنبيات. ففي الأربعينات (من القرن الماضي) فصل من ثانوية الإعدادية المركزية لأنه أفلح في كسب ود أخت مدير المدرسة وجعلها صديقة له. وأنا أذكر أنه كان يلتقي معها في بيت الديبلوماسي الإيراني مهراد، في صحبة ابنتيه درخشندة وفروزندة. وبالطبع كان يصطحبها إلى البقجة ليفخر بها أمامها على أنها كانت تحت تصرفه. وتشاء الصدف أن تتزوج صديقته هذه فيما بعد برجل دولة كبير جداً تمنعني الاعتبارات الاجتماعية من ذكر اسمه. وكان أمير يستغل جمالي وجاهي وأناقتي (كنت من بين أكثر الفتيات أناقة) في رفقته عندما يتقرب إلى الفتيات. وكنت أنا أتقبل ذلك لأنه بمثابة أخ أكبر لي. ذات مرة جاءني مع صديق له وهما في صحبة فتاة مصرية تحب أن تتعرف إلى العوائل العراقية. كذبة مكشوفة، لكنني لا أحب أن أرفض له طلباً. لعل ذلك كان في 1958. وكان عمي أكرم في ألمانيا، فالتمس أمير من زوجة عمي أن يكون استقبال الضيفة في بيت العم، لأنه أجمل بيوت آل الديواني. وأعدت زوجة العم مائدة فاخرة، وشوى أمير سمكتين أيضاً على طريقة السمك المسكوف. وكان حضوري مشجعاً لزوجة العم في استقبال هذه الفتاة الأجنبية الغريبة. وأعترف بأن أمير وصديقه حاولا ملامسة الفتاة في غفلة مني ومن زوجة عمي، لكنهما لم يسفا في ذلك. وبعد أيام وجدت في مجلة أسبوعية مصرية صورتها وتحتها اسمها. آه، إنها هي. فيما بعد أصبحت راقصة وممثلة مصرية معروفة، لا أفضل أن أذكر اسمها لأنها لا تزال على قيد الحياة. تلك كانت آخر أيام سعادتنا العراقية. وبعد ذلك جاءت الثورات والانقلابات والاحتلالات، وفقدنا حياة البراءة. ولكنني عدت لأرى موضع بيت جدي الذي ولدت فيه، وشارعنا الذي عشت فيه أيام البراءة، إلا أنني لم أجد لهما ولظلهما أثراً.