كل يوم يأتيان الى المقهى في النصف الأول من الصباح، يطلبان قهوة مُرّة، يجلسان واحدهما قبالة الآخر، الأول في وضع المتكلم دائماً، لا يكاد لسانه يدخل فمه، يشيح بيديه في كل الاتجاهات. الثاني صامت طوال الوقت تقريباً، وإن تحدث يقول كلمة واحدة: ممكن، معقول، لكنه قبل أن يمضي يقول جملة كاملة: أنا واثق أنك ستجد الحل. يقولها بتصميم وإصرار. الأول يرتدي بدلة كُحلية لا يغيرها، لكنه يبدل القميص وربطة العنق يومياً، يحرك يدين متقابلتين متقاتلتين في الهواء، يقول: الشاب كان بالصدفة قبالة السينما، خطيبته كلّمته في التليفون، قالت باستهتار واضح: تعال وخد دبلتك وحاجتك، تحب ابعتها لك؟ لم يتمالك أعصابه، المفاجأة ألجمته ووضعته أمام الحائط، ربما داخل الحائط. - لحظة عبقرية. انتظر، انتظر، هددته من قبل، قالت له بحزم واضح: أمامك فرصة واحدة. - وهو ضيّع الفرصة طبعاً. لم تكن تصرخ في الهاتف كما كانت تفعل من قبل، ما جعله يوقن أن الموضوع انتهى فعلاً، وهو ما زال يحبها، لذا لم يجد مفراً أمامه سوى السينما يفرّغ همه فيها. - طبيعي. وجد في ضحكة البطل الذي تركته خطيبته أيضاً في الفيلم بعض العزاء له، لكنه على رغم ذلك ما زال مترنحاً لا يريد العودة مبكراً إلى البيت حتى لا تأكله هواجسه، ستقتله الحسرة، سيأكله القلق، ولن تتركه الهزيمة في حضن النوم - ستقلبه على مخدة الأشواك طوال الليل. - أكيد. يعدل من وضع ربطة عنقه، وبعينين نصف مغمضتين كأنه فهم نظرية النسبية يكمل: قرر أن يعود ماشياً... - هذا أفضل. حين بوغت بلجنة من الضباط والعساكر تتفحص رخص السيارات وراكبيها. كمين؟ كان هائماً، لذا لم يكترث كثيراً، ربما لم ينتبه من أصله، أو بالأحرى لم يستطع أن يسيطر على نفسه، روحه كانت تحوم فوق رأسه، راح يرقص من نهاية كوبري قصر النيل في الطريق إلى كوبري الجلاء، واللجنة كانت متمترسة قبل بداية الأخير بقليل. - حلو. يقول ثم يصفّق بكفيه. يصعد على أصابع قدميه، رويداً رويداً يصعد، يذوب في الرقص بإيقاع أسرع، يدور حول نفسه فجأة، ثم ينطلق الى الأمام، لم يغير اتجاهه على رغم عبور السيارات بجانبه، والضابط الذي لمحه استغرب وضحك: هاتوه. لا، انتظروا حتى يدخل الكمين برجليه. يحكي والآخر صامت، يده ثابتة تحت ذقنه وعيناه مسمرتان على الضابط في الكمين. في اليوم التالي أعادا الحكاية، باللقطات نفسها، الإيقاعات والملامح والقهوة المُرّة نفسها. الضابط كان مشغولاً في اللحظة ذاتها بأمر آخر، دخل إلى سيارة أحد أصدقائه الذي أحضر العشاء وجلسا يأكلان. يشير بإصبع قاطعة: أنت تعرف أن هناك نوعاً من البشر هوايتهم الأولى مصاحبة ضباط الشرطة، التقرب منهم والتودد إليهم. - أعرفهم، أعرفهم، أصدقاء الشرطة؟ ومن الممكن أن يظنّه أمين الشرطة والعساكر مجنوناً فيتركوه: هيه ناقصة مجانين؟ - ممكن، هذا حل جيد، ولكن ألن يأكل أمين الشرطة أيضاً؟ يصمتان. هنالك حل غائب ونهاية تائهة، فليتقابلا في المساء كي يستدعيا اللحظة تحت السماء الرمادية النائمة، كي يجدا حلاً أكثر رمادية. - بعد كأسين ليأتي الحل حاراً ومفاجئاً كلسعته. يعودان، وجه الأول على سماره، والثاني يكاد وجهه ينطق من شدة الاحمرار والسخونة. عدل من وضع الجاكيت، قال إن صاحبنا دخل السينما وهو مشوّش تماماً، لم يكن على بعضه، لذا لم يكتشف سرقة محفظته إلا بعد أن قرر الرقص، والضابط سوف يقبض عليه بتهمة واضحة. صمتا، وجدا الحل تقريباً. سيحمّلونه ما لا طاقة له به، ضاعت خطيبته والمحفظة، سيحشرونه في البوكس حتى مطلع الفجر، ثم يأخذونه تحرياً إلى أن يظهر له صاحب. قال الآخر: سيتحمل، هو أصلاً لا يشعر بشيء وليس مكترثاً بعد أن ضاع منه كل شيء. بدا أن المساء أفضل لهما، بخاصة أن الثاني بدأ يتحدث ويشارك بقوة في الحل بوجه أكثر احمراراً، يبدو أنه عب جرعات جعلت معدته تحترق وفمه يتسع، ويده التي كانت على ذقنه اتجهت ناحية بطنه. - ما رأيك في أن تجعله يغنّي بصوت مرتفع، وحين يقترب من الكمين، قبله بعشرين خطوة يبدأ في الرقص، لينشغل به الضابط وجنوده، وتمر السيارات من دون تفتيش. ههههه، فكرة. ما رأيك أنت أن يرقص وحين يقترب من الضابط يصفعه الأخير فجأة على وجهه، فيوقعه أرضاً، فينسى مأساته المزدوجة، ثم بعد أن يحكيها له قد يتركه يعود الى منزله، وقضاء أخف من قضاء، أفكر أن يكون الضابط طيباً فيتركه. - ليه، هو فيه ضابط طيب؟ يتصايحان، يرفعان أياديهما، والشهود في المقهى اعتادوا المشهد، وإن ركزوا عيونهم للحظات ثم انصرفوا. ما رأيك... ما رأيك؟ يبدو أنهما وجداه: ما رأيك أن يتقدم وحين يقترب من الضابط الذي يباغته المشهد فيضحك، وفي غفلة من تهكمه يقترب ثم يصفعه فجأة. - سيحبسه، أكيد. إذاً فليصفعه فقط. كل يوم يأتيان، ربما مر شهر أو شهران، وما زالا يتجادلان. والبطل ما زال يرقص، والضابط ما زال في الانتظار.