لا تزال بقايا عطرها الصارخ على قميصه!!. ينبعث منها أريج عابق؟، يمر - عبر منخريه - لصيقاً بالأنفاس، يستقر للحظة في الرئتين، ثم يتلاشى الى قطرات ندى شفيف يتناهبها دمه. ثم ايضاً - في رأسه المتعب إثر الأرق - أصداء لكلماتها المسكون في العمق بالسخرية والحزن!؟!. أية امرأة كانت!؟، حتى تخطفه بقوة الى عام آخر، ليشعر نفسه كمن يسقط فجأة من شاهق!، أو عكس ذلك - كالذي يقذف من بئر عميقة الى الأعلى. أهي جنية قذف بها الموج الى حضنه!!، خطر له ذلك الخاطر - تلك الليلة عندما أصبحا وحيدين، فضمها بين ذراعيه لتثبت انها امرأة حقيقية، من لحم ودم، اطلق اصابعه خلال شعرها الأسود، الفاحم، فانتابه شعور مفاجئ بالخوف؟!، تذكر جدته التي ماتت منذ أن كان صغيراً، ذات يوم.. سألها عن "العفاريت" فصمتت لحظة، زمت شفتيها بعد أن خطفت نحوه نظرة أكدت له أنه ينتظر جواباً لسؤاله. - هؤلاء مخلوقات نارية، يستطيعون التصور بالهيئات التي يريدونها، لكنهم لا يضرون المؤمنين أبداً. هي لا محالة امرأة حقيقية!؟.. هكذا جزم في سريرته بعدما تذكر ايضاً ان تلك الكائنات ليس بوسعها اقتحام الأماكن الحافلة بالضوء، كتلك القاعة المزدحمة التي رآها فيها أول مرة، وهي تراقص الشاب ذي الشعر المربوط من الخلف، الواضع زوجاً من الأقراط في أذنيه. - 2- كان ذلك في الاسكندرية.. المدينة التي عشقها حد الجنون، والتي طالما حلم بها في يقظته ونومه..، عرفه الجميع بذلك!!؟، حتى إن أقرباءه كثيراً ما اتصلوا به - عبر الهاتف - ليتفرج عليها في فيلم او برنامج ما. اعتاد الأمر، مثلما اعتاد أن يحلق ذقنه صباحاً، او يشتري جريدة عند عودته من الوظيفة، لذا لم يصدق في بداية الأمر خبر "الرحلة الى مصر"!!، ظنها "دعابة" أطلقها احد زملائه لدغدغة حلمه، الى ان ذهب وقرأ بنفسه الاعلان. استحوذ عليه القلق منذ تلك اللحظة!!، قلب الامر في ذهنه، حسب المصاريف، وتخيل أمه التي ستطلب منه أن "يضع عقله في رأسه"، وابنته التي لابد انها ستبكي طويلاً لاجل "الكمبيوتر" الذي كان بصدد شرائه لها. ذلك اليوم، أمضى الليل كله ساهراً، الى الصباح حيث كان أول الذين سجلوا اسماءهم في قائمة الذاهبين. في الطريق بين مطار القاهرة الدولي والمدينة المزدحمة، كتم بداخله شعوراً بالخيبة، تولد - ربما - مع اجراءات التفتيش الصارمة في المطار، والشك الطافح في عيون رجال الأمن!. تأمل الكلاب البوليسية التي ألحت في اشتمام الحقائب، راح يراقب ألسنتها المتدلية وهي تتراقص تحت افواها المفتوحة، والرذاذ المتناثر. قفزت الى ذهنه لحظتها صورته وزوجته عندما كانا خطيبين، لم يشعر كيف خطر له تذكر تلك الأيام؟!. كان ذلك قبل ثلاث عشرة سنة!!، استمرت "الخطبة" أحد عشر شهراً، لم تنقطع خلالها زياراته لبيت خطبته، تستقبله "حماته" بابتسامة مبتذلة، لا تلبث ان تتلقف الاشياء التي يحملها، تغيب بعدها في دهاليز البيت.. لتتركه وابنتها يتحدثان. يدور الحديث احياناً حول امور سخيفة، يسترق خلاله نظرة نحو عنقها الثلجي. تنتابه رعشة لذيذة حين يتخيل الليالي التي سيقضيانها معاً. فيما بعد.. كانت الايام القليلة التي أعقبت زواجهما كافية لتحيل اللون الأحمر الى برتقالي.. فأصفر باهت!!. - 3- التقى "الراقصة" في قاعة الحفلات في فندق "الهرم" بالاسكندرية، حينها.. كان قد بقي لنهاية الرحلة يوم واحد، اخبروا - عند المساء - بأن ادارة الفندق قررت دعوتهم الى حفل فني راقص، تحييه فرقة اسبانية جوالة تدعى "تروبادور". اتخذ لنفسه مكاناً في آخر القاعة، التفت حوله يتفحص الحضور (ملامح افريقية وآسيوية.. وكذلك أوربية)، كان بعضهم يحمل آلات تصوير، وآخرون يجهزون اوراقهم البيضاء لكتابة التقارير الصحفية. ظهر المدير بكرشه الكبيرة وقد غطت ربطة عنق مخططة قسماً منها، قدم الحفل بالانكليزية، وما ان غاب خلف الكواليس.. حتى انطلقت موسيقا "الجيتار" الصاخبة من مكان مجهول، تبعها على الفور الغناء القوي، الشجي. فجأة.. انبرت الراقصة للمتفرجين، بثوبها الأبيض، الفضفاض، يرافقها الشاب المرتدي بنطالاً أسود وقميصاً ابيض. بدءا يتراقصان.. المرأة تضرب قدميها بشدة على الأرض، بينما جسدها مشدود، ورأسها مرفوع الى الأعلى - كمن يكابد ألماً عظيماً. تمسك بيدي الشاب، تدور بخفة في حضنه، تبتعد عنه - دون ان تفترق اليدان - يعود لاحتضانها بعد ان تدق الأرض مرة أخرى بقدميها المنتصبتين بقسوة!. لم يدر كيف التقت عيونه وعيون "الراقصة" من بعيد؟!، فوصلت اليه عبر المسافة الفاصلة بينهما نظرة توسل متدفقة من عينيها؟!. حدث ان استدارت لتلتقي عشيقها "المزعوم"، فاغتنم الفرصة والتفت للوراء، عل أحداً ما خلفه.. تستهدفه العيون العطشى؟!!. لم يجد غير جدار القاعة المكسي بالمخمل العسلي اللون!، نفض رأسه ليبعد عنه الفكرة السخيفة، لكن النظرة نفسها قدمت اليه - ممزوجة هذه المرة - بتساؤلات مريرة وألم دفين. في نهاية المشهد الراقص، أغمضت له عينيها فبدا له ذلك وعدً مستحيل التحقق، لكن المفاجأة أذهلته حين خرج من قاعة الرقص ليجدها بانتظاره؟!!. - 4- لم يحتج عندما كانا يتجهان الى الشاطئ للحديث معها حول الأيام التي مضت، تأكد له عبر النظرات التي تراشقا بها انهما قالا كل شيء حول الماضي، وذكرياته المحزنة. تشابكت أصابع اليدين، التصقا من خلال المشية بعضهما ببعض، استكان البحر الجموح للقائهما، وكأنه تذكر في تلك اللحظة "آدم" و"حواء" عندما هبطا على الأرض للوهلة الأولى؟!. فك عن شعرها ربطته، وأرسل كفيه خلال تجاعيد الشعر المظلمة..اجتاح عطرها الهمجي انفاسه فكشف له المزيد من أسرارها، استلقيا بعدئذ على الرمل مثل عصفورين تعبين.. ينبض قلباهما بعنف. بدأ بينهما الحوار الهامس الذي استغرق بقية الليل. - ما الذي أعجبك في الرقص؟! - أرى فيه شكلاً من أشكال.. الاحتجاج والرفض. - تقصدين الحرية؟! - لا.. أنا لا أحب مصطلحات "الأيدولوجيا"، انتم العرب.. تفلسفون الاشياء وفق معتقداتكم وتوجهاتكم. - والأندلس؟!. - لا أحد ينكر أنكم بناتها، لكن إسبانية اليوم.. هي حفيدة الاندلس التي تحمل من جدتها الأصالة العربية، لكنها - في الوقت نفسه - تتربى في كنف أب أوربي، منفتح الذهن. - ألا تعتقدين أنهم يحاولون طمس معالم حضارتنا العربية الاندلسية؟!. - لا شك في أنهم فعلوا ذلك.. ولا يزالون يفعلونه. في القرون الوسطى استأذن أسقف قرطبة الامبراطور "شارلكان" من أجل اقامة هيكل رئيسي داخل مسجد المدينة، وافق الامبراطور على طلبه، غير دارٍ أنهم كانوا بصدد إزالة السقف الاندلسي القديم، ومحو النقوش والآيات، وتشويه تناسق الأروقة والاعمدة!!. كان التشويه عظيماً.. لدرجة ان الامبراطور حين جاء لزيارة المكان ارتاع وقال للأسقف: "لقد بنيتم هنا.. ما يمكن بناؤه في أي مكان آخر، ولكنكم قضيتم بذلك على أثر فريد، ووحيد من نوعه في العالم". - هل تقبلين الزواج مني؟!. تضحك ضحكة مغناج، لا تلبث الضحكة ان تنطفئ فجأة!.. لتحل محلها ملامح الوجوم والحزن، والنظرة الكسيرة في العينين السوداوين. تعلقت عيناه بشفتيها بما يشبه الاستجداء؟!!. - الزواج كذبة كبيرة اخترعها المجتمع ذات يوم، ليبيح في الخفاء سلوكاً يحرمه في العلن. اذا لم تصدقني.. فكر في زوجتك - إن كنت متزوجاً -. - 5- هي ذي أصداء كلماتها تدور في رأسه من جديد، وهو على ظهر طائرة عائدة من مصر، بينما استقبلته العائلة في المطار، لمح في عيني زوجته بريق شوق مستحدث فتذكر كلام الراقصة. - "الحب، الكره، الفرح والحزن، اللقاء والوداع".. كلها مشاجب نعلق عليها مشاعرنا الآدمية المجنونة. اتجه مع عائلته نحو البيت، أمطرته زوجته بوابل من الأسئلة عن (الاسكندرية) و(الأهرامات) و(مصر الجديدة). طلب منها الانتظار حتى يصلوا الى البيت، لكنها بدأت تلكزه هذه المرة بإصبعها!، رمقها بنظرة تأنيب.. دون أن تتوقف؟!. رفع لها حاجبيه محذراً؟!، ففاجأة وجهها أصفر باهتاً، وعيناها اللتان ارتسمت تحتهما خطوط سمراء داكنة!!. التفت حوله بدهشة (زوجته تمسح عن وجهه عرقاً غزيراً)، تغيب في الدهليز الضيق الذي يصل غرفة النوم ببقية الغرف، لتعود حاملة بيدها كأس ماء.. تطلب منه أن يشرب الماء وأن "يخزي الشيطان". احتسى الماء على مهل، رفع بصره نحو الساعة قبالته (تشير الساعة الى ان أمامه خمساً وعشرين دقيقة فقط ليتلحق بعمله المسائي)!!. التفت الى جواره مرة أخرى ليجد مجلة مصورة كان قد تفحصها قبل القيلولة.. المجلة مفتوحة على الصفحة ذات الرقم "50" حيث لقاء مع راقصة اسبانية. تناولها ببرود بين يديه، تأمل وجه المرأة المرتدية ثوباً ابيض فضفاضاً، برفقتها شاب مرتد بنطالاً أسود وقميصا ابيض، تحت الصورة عبارة تقول: (الفلامنجو - أشهر الرقصات التي تنسب للتراث الاندلسي، خليط من الموسيقا الغجرية والمغربية). ثمة خطوط حمراء وضعها تحت عبارات محددة، معتبراً إياها عبارات مهمة "الزواج كذبة كبيرة اخترعها المجتمع، ليبيح في الخفاء سلوكاً يحرمه في العلن"، "المفاهيم والمصطلحات، مشاجب نعلق عليها الافكار والمشاعر". ارتدى ثيابه، وغادر متجهاً الى عمله المسائي، قبل ان يصل.. تذكر فجأة أنه نسي محفظة نقوده؟!، وحمالة المفاتيح؟!، قفل عائداً الى البيت.. ذهنه كان في تلك اللحظة فضاءً لغيوم رمادية تائهة!!.