كان من الصعب اسناد منصب رئيس الوزراء الى الدكتور محمد البرادعي سواء كان الحاكم محمد حسني مبارك او المجلس العسكري او محمد مرسي. البرادعي رجل صعب. لا يتقن ابرام التسويات والصفقات السرية. لا يتقن ولا يريد. لهذا لم يكن مبارك سعيداً بعودة هذا الرجل الى مصر حاملاً راية الديموقراطية والاصلاح والتحديث. ولهذا تعامل معه المجلس العسكري بعد الثورة بقدر كبير من التوجس. ابلغ المشير حسين طنطاوي البرادعي ان «الاخوان» وضعوا فيتو على توليه رئاسة الوزراء لكنه عرف لاحقاً ان الدكتور محمد مرسي هدد العسكريين باحراق البلد اذا اعتمدوا هذا الخيار. وهنا نص الحلقة الثانية: عدت من فيينا في 2010 هل شعرت ان نظام الرئيس حسني مبارك يتهاوى؟ - كان اعتقادي أنه لا بد من أن يحدث تغيير للنظام، إذ كان أصابه الوهن والشلل. وكنت كلما أتيت مرة أو اثنتين في العام، أقابل الرئيس مبارك وأُسدي اليه ما اعتقد بأنه نصيحة مخلصة لوجه الله، بضرورة الإصلاح الداخلي والإصلاح في السياسة الخارجية، لكنني أيقنت أخيراً أن لا أمل وأن الرجل وصل الى أقصى ما يستطيع. ربما يستطيع ان يضع ضمادة على الجرح، انما لا يستطيع أن ينظر الى ما يجب أن يتم. مرة ذكرت له أن مصر لن تنهض من دون تعليم، والتعليم المجاني دونه صعوبات، يجب أن يكون التركيز على الجودة لا على الكمّ. قلت له حتى من ناحية العدالة الاجتماعية كيف يجب أن يتعلم ابني مجاناً وأنا شخص قادر، لماذا لا تطلب مني أن أساهم في دولة فقيرة، فكان ردّه لا تفتح هذا الموضوع، لأنه لو فتحنا موضوع التعليم المجاني، سيقوم الشعب المصري بثورة... أيام أنور السادات دمروا البلد في 1977 وحصلت خسائر ب 100 مليون جنيه. هذا كان ردّه، فأدركت أن هذا أقصى ما يستطيعه ذاك الشخص. سنّة الحياة والثابت فيها هو التغيير، كونك تمتنع عن التغيير، معنى ذلك أن كل المؤسسات سترجع الى الوراء. هل كان سعيداً بعودتك ومتى رأيته للمرة الاخيرة؟ - لم يكن سعيداً بعودتي. آخر مرة التقتيه كانت في زيارة رسمية ذهب فيها الى فيينا أعتقد في 2008 أو 2007، ولم أرَه منذ ذلك الحين. لا اريد أن أدخل في تفاصيل، لكن حين رأيته في فيينا أدركت أن لا أمل فيه لجهة الاصلاح. التركيب العقلاني في ذلك الوقت كان متعباً جداً. شاركت في غداء اقامه له المستشار النمساوي ودار بيننا حديث طويل (...) خرجت منه بانطباع ان الرجل تخطاه الوقت. انا عملي أكاديمي ويتعلق بمسائل عالمية، لكن الكثير من الناس طلبوا مني أن آتي وأشارك في عملية الإصلاح. رأيت مصر حين كانت مختلفة ثقافياً وفكرياً وحضارياً، وحين تكون في الخارج وتأتي، ترى التدهور الذي وصل اليه البلد. كنت حزيناً أعيش غصة في قلبي. سافرت الى أكثر من مئة دولة، وكان السؤال دائماً: لماذا وصلنا الى ما وصلنا اليه؟ في العالم، هناك انفتاح ورغبة في الحياة وفي التقدم والتطور، فيما أصبحنا ننظر الى الخلف. العالم كله أصبح يطلق لشعوبه الحق في أن تفكر وتعمل، فيما نحن نقمع شعوبنا وهي لا تعمل ولا تفكر. وحين عدت كان مطلبنا تغيير الدستور لخلق نظام ديموقراطي كبداية للتغيير. ما سر العلاقة بينك وبين الشباب؟ - لا أعرف. ربما الشباب مرتبطون بي وأنا مرتبط بهم، ربما أعطيهم نظرة مستقبلية، أنظر الى الأمام وهم أيضاً. أستطيع أن أفهم الشباب على رغم سنّي المتقدم، فقلبي شاب. أحب أن أنظر الى مستقبلهم، وأن أتعلم دائماً شيئاً جديداً، فكل يوم أعلم أنني لا أعلم ما يكفي... النظرة المستقبلية، القدرة على تقبل النقد، القدرة على التغيير أو الرغبة فيه. وجدت أن الأمل الوحيد في التغيير هو الشباب. كنتَ مديراً للوكالة الدولية للطاقة الذرية، حصلتَ على جائزة نوبل. أليس غريباً أن تأتي الى الوضع الداخلي المصري وتدخل في هذا النفق مع كل أخطاره ومخاوفه؟ تعرضتَ لاعتداء، من كان وراءه؟ - كان الاعتداء عليّ في استفتاء آذار (مارس) 2011، ولا أعلم هل وراءه النظام القديم، أم الجماعات الإسلامية، إنما هناك احتمال كبير أن يكون النظام القديم الذي خسر بقيام الثورة وكان غاضباً مني. بالطبع الاعتداء مدبر، وكانوا يضربون بقِطع رخامية، ولولا حماية الله كان ممكناً أن أموت لو أصابتني إحداها، تعرضت لكثير من الإساءة والتشويه. ولماذا حملة التشويه ضدك؟ - يوم معركة الجمل في 2 شباط (فبراير)، خرجت سيارات بمذياع في كل أرجاء مصر، لتعلن ان الرئيس مبارك اتخذ كل الخطوات للإصلاح، ويجب أن تعلموا ان المراكب الأميركية تقف في قناة السويس من أجل تنصيب محمد البرادعي رئيساً للجمهورية. هذا التشويه منذ أيام مبارك، بدأ بالحديث عن أنني عميل للأميركيين، عميل للإيرانيين، وكل ما يخطر على بالك، بما في ذلك أنهم اخترقوا صفحة ابنتي على «فايسبوك» وأخذوا صوراً. كل القذارات التي تتخيلها استُخدِمت، واستمر الأمر بعد فترة الجيش (المجلس العسكري) وأثناءها. الجيش كذلك كان خائفاً مني أيام الحكم العسكري. كان يُقال: هذا شخص أتى من الخارج، لا يملك حسابات ولا ملفات داخل مصر، وسيقول لنا أين المحاسبة والمسؤولية. سوء التفاهم بينك وبين المجلس العسكري هل بدأ مبكراً؟ - كانت علاقة تقوم في جزء منها على عدم الثقة، كان هناك توجس مني، أن آتي لأقول لهم مع السلامة، وأين حساباتكم؟ استمرت حملات التشويه، الى أن طلبوا مني أن أكون رئيساً للوزراء وأنا عرضت كذلك أن أكون رئيس وزراء في الفترة الانتقالية، طنطاوي كان حينها رئيساً للجمهورية. مَن عرض عليك؟ - طنطاوي ومدير الاستخبارات في ذاك الوقت طلبا أن يجلسا معي. أين ومتى رأيت طنطاوي؟ - في مكتبه في وزارة الدفاع، وكانت صلتي كذلك بمدير الاستخبارات العامة اللواء مراد موافي، وقال لي إنهم يريدون التواصل معي كي أكون رئيساً للوزراء وبدأوا يسألونني: إذا أصبحتَ رئيساً للوزراء، هل تبقي على هذا الوزير أم لا، ولم تكن إجاباتي على هواهم. التقيتَ طنطاوي ومراد موافي؟ - التقيت موافي اولاً. موافي كان في اليوم السابق يدخل غرفة مجاورة ليُحضّر أسئلة، يسألني لو أصبحت رئيساً للوزراء فهل ستُبقي على الوزير الفلاني من دون ذكر أسماء. كانوا وزراء في الحكومة، فقلت له لا، إذا أبقيت وزيراً فسيكون ذلك على أساس الكفاءة، لا بد من أن يكونوا وزراء لا صلة لهم بنظام مبارك. هذا كان أول يوم، بعد ذلك وفي نهاية الحديث مع مراد موافي أبلغته لماذا لا أجلس معهم وجهاً لوجه، بدلاً من أن تأخذ أنتَ الأسئلة وتحضرها ثم تذهب بالإجابات. قلت له من الأفضل أن أجلس معهم. ما أهم الأسئلة التي حملها لك مراد موافي؟ - السؤال الأساسي بعيداً عن الوزراء أو غيرهم: «إذا أتيتَ فهل ستنحّي جانباً طنطاوي بالكامل»؟، فقلت له: هذا سؤال غريب، إن أتيتُ فسأكون رئيساً للوزراء وهو رئيس للبلاد، والحكم الفعلي له، ولا بد من أن أستشيره. الخوف الأساسي كان أنني إذا أتيتُ رئيساً للوزراء فسأُنحّي طنطاوي والمجلس العسكري. تحدثتم عن مسألة الصلاحيات؟ - قال لي لو أن هناك قراراً استراتيجياً، هل تستشير طنطاوي، فقلت طبعاً. ما فهمته أن هناك خوفاً من أن أنحّي المجلس، خصوصاً أن الشباب في الميدان أيام أحداث مجلس الوزراء، حين تولى الجنزوري رئاسة الوزراء، كانوا يطلبون أن آتي رئيساً للوزراء وكان مطلباً شعبياً، الشباب طلبوا مني آنذاك أن أنزل الى ميدان التحرير لينصّبوني، ورفضت والى الآن ما زالوا غاضبين مني. لم أكن أودّ أن تكون هناك حرب أهلية، أن أنصّب نفسي رئيساً للوزراء من ميدان التحرير فيما مجلس عسكري يدير الدولة. ذهبت في اليوم التالي، وحدث ما رويته مع موافي، وشعرت بأن هناك خوفاً من أن أنحّي المجلس، خصوصاً أن لي ظهراً شعبياً. فقلت له في نهاية الاجتماع: لماذا لا أقابلهم وجهاً لوجه، فقابلت طنطاوي وسامي عنان في اليوم التالي. ماذا دار في هذا الاجتماع؟ - طنطاوي قال لي: «الإخوان» يضعون «فيتو» على مجيئك رئيساً للوزراء وأتمنى أن تقبل بأن تكون رئيساً للمجلس الاستشاري، فأجبته: لا أريد أن أكون رئيساً للمجلس الاستشاري، وإذا أتيتُ رئيساً للوزراء فستكون مهمة انتحارية. سأل: لماذا؟ فقلت له: لأن البلد ينهار، فقال لي: استشرتهم وهم وضعوا «فيتو» على اسمك. هل فوجئت بموقف «الإخوان»؟ - فوجئت، وتحدثت الى بعض قيادات «الإخوان» فأنكروا. مع خيرت الشاطر مثلاً؟ - تكلمت مع سعد الكتاتني وأنكر هذا الكلام، لكنني علمت حديثاً أن الرئيس محمد مرسي هو من قال لهم لو أتى البرادعي رئيساً للوزراء فسنحرق البلد، وواحد من كبار قيادات المجلس العسكري قالها لي أخيراً بعدما ترك المنصب. طنطاوي قال لي: سأعيّن الجنزوري رئيساً للوزراء وأنت تأتي رئيساً للمجلس الاستشاري، فرفضت. وأنا أهمّ بالمغادرة، قال لي: فكّر في هذا الأمر، فأجبت: فكر أنتَ أيضاً في أن آتي رئيساً للوزراء ويتولى الجنزوري رئاسة المجلس الاستشاري، وتم تعيين الأخير رئيساً للوزراء. هل طُرحت مواضيع أخرى في اللقاء؟ - نعم، قلت له أخافُ على الدستور، فهو ما يهمني في كل تلك الأمور، أجاب: الدستور خط أحمر بالنسبة الينا، ويجب أن يكون دستوراً ديموقراطياً ومدنياً، فلا تخشَ، ويجب ألا يكون هناك أي خوف على الدستور. هل كنتَ تعرف طنطاوي في ما مضى؟ - لا، لم أكن أعرفه. التقتيه قبل ذلك مرة أو اثنتين حين كان في المجلس العسكري، ومرة التقتيه حين قال إن المرحلة الانتقالية ستتطلب 6 شهور. قلت له إن هذا الكلام غير صحيح، ولا بد من أن نبدأ بدستور وبعد ذلك أحزاب ثم انتخابات. والمرة الوحيدة التي شعرت فيها بأنهم وثقوا بأنني لا أملك أجندة خاصة ولا نية لعقابهم أو أي شيء من هذا القبيل، كانت المرة الأخيرة، ليلة إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية بين مرسي و (منافسه أحمد) شفيق. كان هناك خلاف حول من يملك السلطة التشريعية وأصدروا إعلاناً دستورياً. يومها كان الدكتور مرسي حدثني بالهاتف، وكان يعقد اجتماعاً دعاني اليه، فرفضت أن أشارك لأنني أؤمن بأن انتخابات من دون دستور «مضروبة»، وبالتالي كنت أقاطع المشاركة في العملية الانتخابية. قلت له ان ما أخشاه هو حدوث صدام وأنا ذاهب الى المجلس العسكري اليوم كي أسعى الى ايجاد وسيلة لحل بين الرئيس المنتخب والمجلس لئلا ندخل في صدام. ذهبت والتقيت طنطاوي وعنان، وللمرة الأولى شعرت بأنهما بدآ يثقان بأن لا مصلحة لي إلا مصلحة البلد. وجدت الاثنين في حالة ارتباك تام، وكان ذلك قبل اعلان النتيجة بيوم. قالا: هل انتهى بنا الوضع أن تكون هذه حالنا بين شفيق ومرسي؟ فقلت لهما أنتما أوصلتمانا الى هذه النتيجة منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية في آذار (مارس) 2011، وأقدر أنكما كنتما خائفين من تأثير الضغط الإسلامي، فأنكرا هذا وأقسما على أنهما اعتقدا بأن نصيحة مخلصة وُجّهت اليهما، ولكن للأسف غُرّر بهما أو كانت النصيحة غير مخلصة. مِمن؟ - سألتُ من نصح بذلك؟ فكانوا المستشارين القانونيين لديهما، وكان جزء منهم من أيام حسني مبارك، وجزء له صلة بالتيار الإسلامي، إنما أقسما (طنطاوي وعنان) بأنهما كانا يعتقدان بأن هذا هو الأفضل، انما أُسديت إليهما نصائح غير مخلصة، واتفقا على أن البلد وصل الى طريق مسدود منذ آذار 2011. هل كان شعورهما يميل الى شفيق أم الى مرسي؟ - كان تخوفهما أنه في حال جاء «الإخوان المسلمون» فقد يطول وجودهما في الحكم، أما شفيق لو أتى، فسيذهبان. قالا كلاماً من هذا النوع؟ - نعم، كانا خائفين من «الإخوان»، إذا أتوا فستكون حركة إسلامية، أما شفيق لو أتى فسيكون رئيساً مدنياً وسيذهب. هل تعتقد بأن طنطاوي مثلاً كان يظن أنه سيكون الرئيس المقبل؟ - إطلاقاً، لم تكن لديهم (المجلس العسكري) أي رغبة في البقاء في السلطة. كانوا يريدون التخلص منها، كانت بالنسبة اليهم جمرة نار، وكان تعاملهم مع المواضيع يوحي بخبرة محدودة تماماً. أتصور أنه كان هناك خوف على أنفسهم والحفاظ على مكاسب الجيش، ومكتسباتهم. هذا كان الهدف الذي يحركهم، أما البقاء في السلطة فلا، وأخذوا في النهاية درساً قاسياً. غادروا والشعب يهتف «يسقط حكم العسكر». الآن الجيش لا يرغب اطلاقاً في أن يكون جزءاً من النظام الحاكم في مصر. حتى الناس تطالب بأن ينزل الجيش إذا حدث عنف أو شيء من هذا القبيل، لكن الجيش قلق جداً أو يرغب في ألا يكون جزءاً من الأمر، لسان حاله «حلّوا مشاكلكم مع بعض»، لأن تجربته كانت مريرة جداً. هل تعرف وزير الدفاع الجديد؟ - أعرف عبدالفتاح السيسي لأنه كان قريباً جداً من طنطاوي، وفي الاجتماع الذي تحدثت عنه كان السيسي حاضراً مع طنطاوي، وقريباً منهم جداً. كان الأخير يطلب مني أن أهدئ الشباب، فقلت لهم إن لا سيطرة لي عليهم، فخاطبني السيسي: «لا، هو (السيطرة) بالفكر». أعرف السيسي والتقيته مرة أثناء وجوده في الحكم العسكري، هو شخص صغير السن مقارنة بطنطاوي وعنان، ومدرّب جيداً، أمضى فترة تدريب في الولاياتالمتحدة. تشعر بأنه جيل جديد. هل كان هناك تواطؤ بين المجلس العسكري والاسلاميين، الجيش يسهّل وصول الإسلاميين وفي المقابل يسلم الاسلاميون بامتيازات العسكريين؟ - لم أعتقد بذلك. كان هناك تخوف من أن انتخاب مرسي هو انتخاب لفكر جديد ومدرسة جديدة، كان هناك خوف من تغيير في هوية المجتمع. قلت لسامي عنان حين تحدثنا عشية اعلان نتائج الانتخابات، إن شفيق ممثل للنظام القديم، فقال: أياً يكن من سيأتي الى السلطة، النظام القديم لن يعود، وهذا صحيح. الشعب تحرك، خرج من البوتقة الموجود فيها. فأياً يكن من سيأتي رئيساً للجمهورية، لا يستطيع استنساخ النظام القديم. التقيت طنطاوي وعنان مرتين أو ثلاثاً، لكنني التقيت مدير الاستخبارات مراد موافي أكثر بكثير. كان يشاركني القلق من التطورات في البلد، لذلك لم أُفاجأ بعزله في النهاية. كنت أراه باستمرار، وهو الذي أدخل الشعور الى المجلس العسكري بأن ليست لي مصلحة، إذ كنت أسدي اليه النصيحة بخصوص العلاقة مع الولاياتالمتحدة وفي الداخل. كان هناك توجس مني أثناء الحكم العسكري ولم أشعر بأنه انتهى إلا عشية اعلان نتيجة الانتخابات، حين شعرت بأن طنطاوي وعنان فتحا قلبيهما لرجل يسعى الى حل مشكلة البلد، لا ليجد شيئاً لنفسه. كان غريباً في رأيك أن طنطاوي لم يدافع عن مبارك؟ - لا أعتقد بأنهم كانوا يستطيعون. أنا لم أكن أستطيع أن أقول لا للشباب أو للشعب المصري. لم أكن أستطيع أن أقول لهم إنني سأستمر في العمل في الخارج. لم يكن لديّ خيار، ولم أكن أتصور أن تتطور الأمور بهذه التعقيدات. دائماً عندنا شعور بالذنب، حققت ما حققت وفي بلدي مَن لا يستطيع أن يأكل أو يشرب. لا بد من أن يكون عندي نوع من الوفاء (لمصر). عشتُ في الخارج كثيراً، وأبي حين كان في العام 1961 نقيباً للمحامين، كان يقول الكلام الذي قلتهُ في 2009، كان والدي في 1961 يتحدث في مؤتمر للقوى الوطنية لدعم حرية الصحافة والديموقراطية، وحصلت مشادّة بينه وبين أنور السادات، وكان آنذاك رئيس مجلس الشعب ورئيس الاجتماع وقطع عنه الميكروفون قائلاً له: وقتك انتهى. أجابه والدي: لقد انتزعتُ مِنْ على المنبر. وجدت نفسي عام 2009 أقول الكلام الذي قاله أبي، لا بد من أن يحدث شيء في بلدي من أجل تقدمها. أين كنت في 25 يناير (كانون الثاني)؟ - كنت في فيينا فحين عدت في 2010 كانت لديّ ارتباطات كثيرة في الخارج، وكنت أسافر كثيراً لأنه لم يكن يُسمح لي بأن أظهر في مقابلات تلفزيونية في مصر. أتذكر أن «قناة الجزيرة» أرادت إجراء حوار معي عبر الصحافي التونسي محمد كريشان، فرفضوا منحه فيزا لدخول مصر، واضطررت أن أسافر لإجراء المقابلة، وكذلك الأمر مع «قناة الحرة». كان جزء من رحلاتي لحضور مؤتمرات ومجالس للحكم الرشيد والشفافية الدولية. وبمَ شعرت حين رأيت تظاهرات 25 يناير؟ - شعرت بفرحة لأن الأمور سارت أسرع مما أتصور. في 25 يناير كانت هناك 3 صفحات تدعو للتظاهرات، على «فايسبوك»: صفحة «كلنا خالد سعيد» وصفحتان للحملة الشعبية لدعم البرادعي وحملة «لازم» التي انفصلت عن حملة البرادعي. كلها كانت تدعو ل 25 يناير، ولم نكن نعرف حجم الاستجابة. في 25 يناير نزل إبراهيم عيسى (رئيس تحرير «جريدة التحرير») وقال: لم نكن نعرف ان 10 آلاف أو 20 ألفاً سينزلون فوجدوا 40 ألفاً نزلوا، لم يكونوا يعرفون أين يذهبون، فقرروا الذهاب الى ميدان التحرير. وجدوا متظاهرين كثراً، فقالوا نريد ميداناً كبيراً، فذهبوا الى «التحرير». وجدت الأمور تتطور بسرعة، وأتيت ليلة 27 كانون الثاني،عشية جمعة الغضب، ووصلت الى المنزل. كان عندي سعد الكتاتني وعصام العريان، وكنا واضحين. لدينا اختلاف فكري ولكن يربطنا عمل مشترك، لجمع التواقيع على المطالب السبعة. وحين وصلت في شباط (فبراير) 2010 استقبلت 30 سياسياً وأنشأنا الجمعية الوطنية للتغيير، وكان فيها سعد الكتاتني وعصام العريان. كانوا يساعدون في جمع التواقيع، وجمعنا مليوناً. في أيلول (سبتمبر) 2010 قلت للشباب في مطعم: إذا نزلنا في تظاهرة تضم مليون شخص فستكون الأولى والأخيرة، وعقدنا الاجتماع في مطعم كباب وكفتة (مطعم أبو رامي)، حتى أن الشباب لم يعلنوا أنني آتٍ لئلا يخاف صاحبه، وقلت هذا الكلام في إطار تحفيز الشباب. وفي 27 كانون الثاني خرج الكتاتني والعريان من منزلي الى السجن، وكنا متفقين على أن نلتقي في 28 كانون الثاني في مسجد الاستقامة في الجيزة، ومعنا كل القيادات الشابة. لم أجد العريان والكتاتني واكتشفت أنهما في السجن. ومنذ ذاك اليوم كان عملي أن أجري مقابلات صحافية لأؤكد ضرورة رحيل مبارك. اتصلت بالأميركيين وقلت لهم لا بد من أن ينحاز (الرئيس باراك) أوباما فوراً الى الشعب المصري، لأن موقفكم مخزٍ، وخرج أوباما بعد أيام وغيّر موقفه. في ذلك الوقت بدأت مفاوضات مع عمر سليمان. هل تعرف عمر سليمان، أو اتصل بك لحضور التفاوض؟ - لا أعرفه، ولم يتصل بي، و «الإخوان» ذهبوا للتفاوض معه وغيرهم. كان موقفي والشباب أنه لا بد من رحيل مبارك، ولو أنه ذهب في 11 شباط وترك مصر مثل (الرئيس التونسي السابق زين العابدين) بن علي، لكان الأمر أكرم له. أكنتَ تفضل ذلك؟ - كان خلّصنا من كثير من المشاكل، أراح واستراح... لو غادر لكان جزء كبير من المحاكمات خلاص، مشي في الفترة الصعبة التي مرت لكنه لم يغادر، وهذا دليل على عدم رؤية واقعية للأمور. طبعاً هناك كثيرون لن يرضيهم هذا الحديث، وسيقولون القصاص وغيره، إنما في فترة الثورة أنتَ لا بد من أن تصل الى مرحلة تنظر فيها الى الأمام لا الى الخلف. أتذكر أن جون كيري كان هنا في مصر، وطلب النظر الى الأمام، والسعي الى مصالحة وطنية والمضي قدماً مثل جنوب أفريقيا، لكن هذا لم يحدث. إذاً أنت لم ترَ عمر سليمان ولم تكن تعتقد بأن التفاوض معه سيشكل حلاً؟ - لا، لم يكن يشكل حلاً إطلاقاً. عمر سليمان رأيته مرة أو اثنتين، حين كنت ألتقي مبارك. رأيته مرة حين كان مديراً للاستخبارات. عمر سليمان ومبارك خصوصاً أثناء حرب العراق كنت على اتصال دائم بهما للمساعدة في تجنب الحرب في العراق. وطبعاً كما اتضح لي بعد ذلك، أن الموضوع بين مبارك وصدام حسين كان عداء شخصياً، إنما عمر سليمان كان عقله متزناً ورؤيته للأمور أفضل بكثير من مبارك. مرة تحدثت مع سليمان عن رؤيتي للسياسة الخارجية وقلت له لا بد من أن ننظر شرقاً، فقال: هذا كلام عظيم، ليتك تُقنع به الرئيس مبارك، فتعجبت. أنت تراه كل يوم، وهذا يدل على أنه لم يكن هناك انفتاح على مبارك بالدرجة الكافية، لأن سليمان كان الأقرب اليه. في الفترة الأخيرة كبر (الرئيس السابق) وأصبح يتحدث كثيراً. لا يريد أن يسمع، يريد أن يتحدث في أمور تعود الى 20 أو 30 سنة. أصبح يشعرك بأنك تجلس مع جدّك. البرادعي ل"الحياة": حسابات المجلس العسكري ومخاوفه من «الإخوان» مهدت الطريق ل«فرعون جديد» (1) غدا حلقة ثالثة