نلتقي اليوم، هنا في هذه المنطقة من الريف الفرنسي الأخاذ، لنجدد حوار الشرق والغرب والشمال والجنوب. نجدد محاولاتنا لهذا اللقاء رغم كل المساعي المضادة للحوار من لدن المتعصبين والعنصريين الذين يشغلوننا بدسائسهم القادمة من كل الجهات الأربع ومساعيهم التي لا تمل من محاولات التهييج وزرع الكراهية. لكن لحسن الحظ أننا نحن أيضاً لا نمل من محاولاتنا المضادة لمساعيهم السوداوية... ولذا نحن هنا اليوم. ندشن اليوم قطعة، بل تحفة فنية منسوجة، جمعت المجد من أطرافه، في العناصر التي احتوتها: فموضوعها: رحلة الإسراء والمعراج، تلك الرحلة الربانية التي شارك فيها نبيَّنا محمداً (صلى الله عليه وسلم) أشقاؤه الأنبياء والرسل عليهم السلام أجمعين، لتصبَّ تلك الرحلة أيضاً في منظومة التقارب بين البشر عبر الحوار الرسولي/ الأرضي في المسجد الأقصى بالقدس (الإسراء)، والرسولي/ العلوي في سماء الله الواسعة (المعراج). فهي رحلة ثلاثية بين مكةوالقدس والسماء، وما أقدسها من رحلة... إذ جمعت خيرَيْ الأرض والسماء في ليلة واحدة. ومستضيفها وناسجها: مدينة أوبيسو، عاصمة النسيج في فرنسا بلاد الفن والذوق العالمي. حين خاطتها أنامل العاملين المهرة في «أتيليه بانتون» العريق في بلدة فيلليتو، حيث الخبرة والعراقة التي تواصلت عبر أجيال هذه الأسرة الفرنسية الشهيرة بالنسيج طوال 300 عام حتى وصلت إلى الوريث الحالي للحرفة السيد لوكاس بانتون الماثل معنا الآن. أما كاتبها ومبدعها، فهو فنان وخطاط مصري عربي عالمي، تجاوزت أعماله الحدود... الحدود الجغرافية والحدود الفكرية التقليدية، كاسراً بمهارته الخلاقة نمطية الرؤية السطحية للحروف، ومفجّراً بنظرياته الحديثة حول التكوين الهندسي للحرف نظرياتٍ وآراء تراثية قديمة يكاد يتخطى بها أستاذه الشهير (ابن مقلة). نبت الفنان د. أحمد مصطفى، الذي يحتفل هذا العام بميلاده السبعين، في تربة مصر التي اشتهرت بحرفة الغزل والنسيج والتطريز منذ عهد القدماء المصريين مروراً بالحضارات الرومانية والإسلامية التي تعاقبت عليها. واشتهرت مصر خصوصاً بالكتّان الفاخر، حيث حظيت المنسوجات الكتانية في العصر الفرعوني بشهرة جعلتها تكون ضمن قائمة الهدايا المتبادلة بين فراعنة مصر وملوك العالم القديم، كما تشير بعض المراجع والوثائق المختصة. وقد ساهم بازدهار صناعة النسيج في مصر تصنيع كسوة الكعبة المشرفة لديها في عصور سالفة، قبل أن تقوم الدولة السعودية الحديثة بإنشاء مصنع مخصوص لكسوة الكعبة في مكةالمكرمة، تُكسى به كل عام، تعبيراً عن الاهتمام السعودي البالغ بالحرمين الشريفين، وتوقيراً للمقدسات الإسلامية الماكنة في أفئدة الناس. كما ارتبطت حرفة النسج في الثقافة العربية على المستوى الشعبي من خلال صناعة الخيمة (بيت الشَّعَر) الذي يستخدمه البدو مسكناً ومأوى لهم من ظروف الحياة الصحراوية القاسية، صيفاً و شتاءً، فهم يبذلون جهداً استثنائياً من أجل نسج بيت الشَعر كي يكون قادراً على الوفاء بمتطلباتهم واحتياجاتهم البيئية بكفاءة. إذاً نحن اليوم أمام قطعة فنية مليئة بالشغل والإبداع .. وبالتأملات والانعكاسات التي تنطلق من زوايا لونية وضوئية وخطية عديدة، لا تستهدف الرؤية البصرية فحسب بل الرؤيا العقلية التأملية لرحلة الإسراء والمعراج، الرحلة الخالدة التي لم يكن عبثاً أن تتكون من شطرين: أفقي وعمودي، أفقي (إلى القدس) لتأكيد أهمية التواصل بين البشر والمدن والحوار بين أتباع الأديان وأهل المدائن. وعمودي (إلى السماء) لإثبات أن العلاقة الأفقية بين سكان الأرض لا تكون آمنة وراسخة من دون أن تستند إلى مرجعية إيمانية بالله .. الله عز وجل الذي سمى نفسه: (السلام)، وحثنا على إشاعة هذا الاسم والمعنى... والسلام عليكم. * نائب رئيس المجلس التنفيذي بمنظمة اليونسكو * كلمة ألقيت في حفل تدشين منسوجة (الإسراء والمعراج) بمدينة أوبيسو بفرنسا، ايار (مايو) 2013