سنوات طويلة انشغل خلالها علماء الاجتماع وعلم النفس بالتنديد بما يتعرض له الأطفال من عنف وقسوة، سواء عبر شاشة التلفزيون أم عبر ألعاب الفيديو أو الهواتف أو ال «بلاي ستايشن»... وغيرها. وخلال تلك السنوات تأرجح الأهل بين المنع والمنح. فالمهتمون منهم بصحة أطفالهم النفسية وتركيبتهم الاجتماعية... ظلوا يجاهدون ضد مدّ العنف الآتي إليهم عبر الشاشات، مرة بأسلوب الحجب ومرة بطريقة التنبيه ومرات بالعصا والجزرة. ومن الأهل من لم يجد الوقت أو الجهد، أو ربما ضنّت عليه ظروف الحياة بالوقت والجهد ليعي خطورة ما يتعرض له الأطفال من عنف، ومدى جاذبيته. أما الصغار أنفسهم، فإنهم –كغيرهم من فئات البشر– يجدون أنفسهم واقعين بين شقي رحا الممنوع والمرغوب. يذعنون للأهل حيناً ويراوغون حيناً آخر، ويعتريهم الشوق وحب الاستطلاع دائماً. لكن رياح «الربيع العربي» المتناثرة على جبهات شتى تسربت من كل مكان، فلم تفلح معها سبل المنع، ولم تقف أساليب الحجر عائقاً أمامها، ولم تغلب في اجتياح، ليس فقط عيون الأطفال، بل عقولهم وقلوبهم وحواسهم. متابعة أحداث الثورة المصرية وما اعتراها من مشاهد حرق ودهس واشتباك على الهواء مباشرة هدمت حواجز «اقفل التلفزيون يا ولد»، ودحضت جهود «ادخل غرفتك، بابا وماما سيشاهدان العو (كائن أسطوري يخيف الصغار) على التلفزيون». فقد فرض «العو» نفسه فرضاً في كل بيت على الهواء مباشرة، وأحياناً قبالة البيت، حيث كانت وما زالت ميادين وشوارع مسرحاً لأحداث عنف عدة تختلط فيها التظاهرات بالاشتباكات، وتتداخل فيها الاحتجاجات والدماء. ومع استمرار التدهور السياسي والأمني والاقتصادي في مصر، خارت قوى الأهل في بذل الجهود لحماية الصغار من التعرض لما تحتويه نشرات الأخبار والبرامج الحوارية من مشاهد عنف. وزاد الطين بلة توسع رقعة الحوادث، وانضمام مشاهد من سورية إلى أخرى من لبنان وغيرها في العراق أو ليبيا وأحياناً من تونس ودائماً من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالإضافة إلى ما يستجد هنا وهناك، حتى تضاءلت جهود المنع وتقزمت محاولات الحجب. ليس هذا فقط، بل لم يعد التلفزيون وحده المتهم بنقل العنف إلى داخل عقول الأطفال، ومن ثم وجدانهم وتكوينهم النفسي، بل إن مجريات الحياة اليومية أصبحت تضمن نقل هذا العنف مباشرة إلى الصغار من دون وسيط. تقول ميريت مصطفى (38 سنة)، وهي أم لطفل في السابعة من عمره، إنها كانت تبذل جهوداً كبيرة لتجنيب صغيرها متابعة مشاهد العنف التي باتت وجبة يومية في نشرات الأخبار وغيرها من البرامج. لكن جهودها بدأت تتضاءل، مع شعور الطفل بمشاعر الاحتقان المتزايدة بين المواطنين في الشارع. وتشرح: «أثناء عودة ابني من المدرسة يشاهد الكثير من «الإشكالات» بين الناس لأتفه الأسباب. وقبل أيام، كنت قد وعدته بأن أصطحبه إلى مركز تجاري شهير، وقبل أن نصل بدقائق عرفنا أن معركة عنيفة اندلعت هناك وجرى تهشيم واجهات المحال التجارية. العنف إذاً أصبح يدق بابنا من دون استئذان». يقول الباحث في علم الاجتماع محمد غالب، إن «ما يحدث اليوم يدفعنا إلى التفكير خارج الأطر التقليدية، من حيث توجيه عبارات النصح والإرشاد السابقة التعليب عن ضرورة مراقبة الأهل للأبناء أثناء مشاهدة التلفزيون، أو ألعاب الكومبيوتر... أو ما شابه، فالعنف الذي كان حكراً على نوعية أفلام بعينها، أو يأتي موسمياً عبر نشرات الأخبار، أو معروفة أسماؤه من خلال ألعاب إلكترونية افتراضية، بات واقعاً ملموساً اليوم». تراشق بالكلمات... فاللكمات ويضيف: «حين كتبت كلمتي «سورية» و«أطفال» على مؤشر «غوغل» للبحث... هالني ما ظهر: جثث أطفال، وأطفال بملابس عسكرية في ساحات القتال، وغيرهم مشردون في مخيمات للاجئين. بالطبع هناك خطوط عريضة يمكن الأهل اتباعها، لكن الجميع يعلم أن الأمر تعدى مجرد مشاهد تبثها الشاشات». أما تلك النصائح فتدور حول الحديث مع الصغار عما تبثه الشاشات. ويرى غالب أن محاولات الشرح والتهدئة قد تقلل من الآثار السلبية التي تتركها أحاديث العنف، وليس فقط المشاهد. يقول: «يفترض أننا نعلم الصغار مبادئ الحوار وفضائل الاستماع إلى الآخر ومحاسن الاختلاف. لكن ما يحدث في شاشات التلفزيون من حوارات هو نموذج لما لا ينبغي أن نكون عليه من صوت عالٍ وعدم قبول لأفكار الآخر. بل يصل الأمر أحياناً إلى درجة التراشق بالكلمات... ثم اللكمات أمام الشاشة. هنا يجب أن يتدخل الأهل بالتأكيد للصغار أن ما يحدث هو عين الخطأ، وأنها فترة انتقالية سمتها التدني الأخلاقي والعنف المعنوي، سرعان ما ستزول، لأن الأوضاع الخاطئة ليست سمة الأمم». وإذا كانت سمة الأمم المتحضرة حماية أطفالها من التعرض لمشاهد العنف، فإنه حري بها حمايتهم من الضلوع في العنف، سواء كان ذلك من خلال استخدام أطفال الشوارع كوقود للاحتجاجات، وإن كان ذلك تحت ستار أنهم «ثوار صغار»، أو إجبار المراهقين على الانخراط في صفوف المحاربين حتى وإن كان ذلك مع وعد بدخولهم الجنة، أو بإشراكهم في جمع توقيعات للتمرد على الحكم أو التجرد من المعارضة للحكم.