على خلاف ما يوحي به عنوان مسرحية «مجزرة» لا تحصل على الخشبة مجرزة ولا حادثة قتل. وبدا المخرج كارلوس شاهين مصيباً في الحفاظ على عنوان نص الكاتبة الفرنسية ياسمينة ريزا (مع حذفه كلمة إله) في المسرحية التي أخرجها، فالعنوان مدخل رئيس إلى جوّها وإلى عالم شخصياتها والمعاني التي سعت إلى إجلائها. «المجزرة» هنا ضرب من «التحريف الساخر» (بارودي) لهذه الكلمة الرهيبة، ولكن من غير أن يُفقدها دلالتها الرمزية. وقد يكون اختيار هذا النص صائباً، فالعالم العربي يشهد الآن أشدّ المجازر هولاً ورهبة، مجازر حقيقية لا وهمية أو رمزية، مثل «مجزرة» ياسمينة ريزا وكارلوس شاهين وفريق الممثلين وسواهم. الحادثة الصغيرة التي انطلقت منها المسرحية هي إقدام التلميذ فردينان على ضرب رفيقه برونو في المدرسة بعصا، ما أدى الى إصابة شفتيه وأسنانه. دفعت الحادثة هذه والدَي فردينان (المعتدي) وهما الأب «آلان» (فادي أبو سمرا) والأم «أنيت» (كارول الحاج) إلى زيارة والدَي برونو في منزلهما للإعتذار، وهما الأب «مايكل» (رودريغ سليمان) والأم «فيرونيك» (برناديت حديب). إذاً أربع شخصيات (ثنائيان) تلتقي في منزل هو عبارة عن صالون (مع مطبخ وحمام شبه افتراضيين). ليست المسرحية «مسرحية غرفة» كما في بعض أعمال هارولد بنتر، بل مسرحية «صالون» على الطريقة الفرنسية، وهو الصالون الذي لن يلبث أن ينقلب إلى ما يشبه «السيرك» العائلي، العبثي والجحيمي. يبدو المشهد الأول عادياً بصفته مشهداً صالونياً، تتوزّع خلاله الابتسامات المصطنعة على وجوه الممثلين وكأنهم أمام كاميرا فوتوغرافية، وهي تعبر ظاهراً عن سعادتهم على رغم الحادثة التي جمعتهم. ولكن شيئاً فشيئاً تبدأ الأقنعة بالسقوط عن الوجوه لتظهر الملامح الحقيقية لهذه الشخصيات، الملامح السلبية المتوارية خلف الأقنعة. لم تكن الحادثة التي اجتمعوا من جرّائها والتي لم يظهر بتاتاً «بطلاها» الصغيران، إلا ذريعة لانفجار الخلاف بل الخلافات بين العائلتين أولاً ثم بين العائلة الواحدة، الزوج والزوجة، ثم بين الرجلين ثم بين المرأتين. إنها «المجزرة»، مجزرة الحياة العائلية في تفاصيلها اليومية، مجزرة الحياة الزوجية، مجزرة العزلة الفردية والكذب المتبادل والفساد والسأم والقرف (التقيؤ أو الغثيان في مفهومه السارتري)... لا يكاد ينتهي المشهد الأول حتى تنحو المسرحية منحى تصاعدياً، درامياً وعبثياً (سخرية سوداء) وتمثيلاً وإيقاعاً وحركة. وهنا تكمن فرادة الإخراج والتمثيل. جو مضطرب ومحموم يتنامى ويتشظّى ويتبعثر في سياق مضبوط مشهدياً ودرامياً. النص يتصاعد والإخراج والتمثيل، المواقف والأداء... تصاعد كلي وجماعي لا يلبث أن يأخذ لاحقاً بالانخفاض إلى أن يصل إلى النقطة «صفر» أي النهاية اللامتوقعة والمتوقعة في آن. أربعة أشخاص ينقلبون على أنفسهم في لحظات من التوتّر والغضب، كاشفين حقائقهم الداخلية وهواجسهم ومكبوتاتهم... الزوج «آلان» (فادي أبو سمرا) محام يعمل في التجارة السوداء لاسيما تجارة الأدوية، هاتفه الموبايل يحتل جزءاً مهمّاً من حياته، هو صلته الافتراضية بالعالم، لولاه لا يكاد يكون له وجود. هذا الموبايل، هو آلة لعدم التواصل أكثر منه آلة للتواصل. آلة مزعجة تنهب لقاء الأزواج الأربعة، إلى أن تلقي به الزوجة في لحظة اضطراب في ماء المزهرية، فيتعطل وينقطع الاتصال. أما زوجة «آلان» وتدعى «أنّيت» (كارول الحاج) فهي تعمل وكيلة في قطاع الآثار والتراث، أمّ وزوجة على شفير الانفجار مثل الآخرين، وهي تنفجر حقاً، تتقيأ على الكتب وعلى زوجها، ثم في أوج انفعالها ترمي موبايل زوجها في ماء المزهرية وتحمل أزهار التوليب وتنتّفها وتبعثرها أرضاً. الزوج الثاني «مايك» (رودريغ سليمان) تاجر خرضوات وسمكرة يتحدث مثلاً عن السيفون كما لو أنه يتحدث عن أمر مهم، هو أقرب إلى الضحية أمام زوجته لكنه عندما يتحدث مع أمه المريضة عبر الهاتف يستأسد ويصرخ في وجهها، هي المريضة. ويبلغ به ضعف شخصيته أن زوجته «فيرونيك» (برناديت حديب) تنهال عليه ضرباً في إحدى سورات غضبها. و «فيرونيك» كاتبة وباحثة في شؤون التاريخ والسياسة، تهتمّ بقضية دارفور على سبيل المثل، وهي لن تتمالك عن رمي حقيبة «أنيت» أرضاً وبعثرة أغراضها... كرنفال شبه جنوني وهذياني، يختلط فيه عالم الواقع اليومي بتفاصيله الصغيرة وعالم اللاوعي الذي يقضّ حياة الشخصيات التي تعيش على حافة الانهيار. حوارات عادية جداً ولكن ذات دلالات، تذكّر أحياناً بحواريات أوجين يونسكو التي تقول كل شيء من دون أن تقول شيئاً في الظاهر. حوارات حول قالب الكايك وحيوان الهامستر الذي يرميه «مايك» في الشارع تخلصاً منه، والسمكرة والأطفال المسلحين في الكونغو وقنابل لونشر و التاريخ و المجازر...ناهيك عن الرسام فرنسيس بيكون الذي يحضر عبر كتاب وضع على الطاولة ويسقط عليه بعض من قيء «أنيت»، وهذه لقطة لافتة جداً، فهذا الرسام هو أشبه بالجزار الميتافيزقي ومعظم لوحاته عبارة عن مجازر فنية ورمزية. كلام لا عقال له، تختلط فيه القضايا الكبيرة والصغيرة في ما يشبه التداعيات. وهذه التداعيات تنتهي بالشخصيات في حال من السكر بعدما لجأوا إلى الشرب. ولعل اللقطة السينوغرافية الجميلة هنا وسط هذا الجو المحموم تمثّلت في منظر السماء الزرقاء الهادئة التي تعبرها حيناً تلو حين طائرات سفر (سينوغرافيا ناتالي حرب). قد لا نبالغ إن قلنا إن المسرحية هذه هي مسرحية ممثّلين، مثلما هي مسرحية نص وإخراج. ممثلون أربعة نجحوا كل النجاح في تجسيد شخصياتهم بل في إحيائها على الخشبة في حال من التناغم الداخلي والتبادل والأخذ والعطاء، علماً أن ما جمعهم هو حال من التوتر التصاعدي الجارف. أربعة ممثّلين قديرين، يحار المشاهد إلى من ينحاز منهم، على رغم خبراتهم المتفاوتة تمثيلاً ومراساً وزمناً. فادي أبو سمرا مفاجئ كعادته، وحاضر بقوّة هو القادر على تطويع الشخصيات أياً تكن، وعلى منحها ما ينبغي أن يمنحها من ملامح وتعابير. برناديت حديب جذابة كما اعتادت أن تكون، في لينها وشدتها. فادي وبرناديت هما الأعرق مسرحياً والأعمق في تجريب معنى الأداء واستيعاب حركاته وإشاراته، لكنّ كارول الحاج ورودريغ سليمان كانا قديرين جداً في أداء دوريهما وذابا في هذا الجو الراقي من الأداء الجماعي. والظن كل الظن، أن المخرج بدا أشبه بالمايسترو البارع الذي تمكّن من إدارة هؤلاء الممثلين، أفراداً وجماعة، حركياً ومشهدياً. وختاماً لا بد من توجيه تحية إلى الممثلة رندة الأسمر على ترجمتها أو بالأحرى «لبننتها» النص الفرنسي، فهي لم تؤدِّ دور المترجمة بل عملت على معاودة كتابة النص باللبنانية فأبدعت من دون أن «تخون» النص بتاتاً، بل هي جذّرته في اللغة اللبنانية، موظّفة خبرتها كممثلة كبيرة ورهافتها اللغوية ووعيها أبعاد الشخصيات وخطابها. * تقدم مسرحية «مجزرة» في مسرح مونو، حتى الثاني من الشهر المقبل.