لا مُشاحة في القول: إن فضل تأسيس المجلس الوطني السوري يعود إلى جماعة الإخوان المسلمين؛ لتسجيل موقف لهم في الثورة، التي لم يكن لهم يد في اندلاعها. تم، آنذاك، وضع قائمة من 72 اسماً بعضهم أبناء وأقارب الرعيل الأول لحركة الإخوان فيها، كانت طريقة تشكيله انتقائية واجتبائية، بناء على المحاصصة والمحسوبيات لا تستند إلى معايير حقيقية ثابتة، ولكي لا يبدو للعالم أنهم استولوا على المجلس، لجأوا إلى تطعيمه بثلة متنوعة من الاتجاهات الفكرية والآيديولوجية داخل مكوناته، فكان من اللافت حشر الكثير من الأسماء التي لم يسمع بها الشعب السوري البتة قبل الثورة، فمعظمهم أعلن أنه معارض للنظام بعد اندلاع الثورة بأشهر، وتم تعيين «برهان غليون»، ذي التوجه العلماني، رئيساً لهذا المجلس. اجتمعت الهيئة العامة للمجلس مرتين منذ تأسيسه، الأولى في تونس والأخرى والأخيرة في قطر، ولكنّ ذينك الاجتماعين لم يقدما شيئاً للثورة البتة؛ بسبب عدم وجود آلية للعمل المنظم لمساعدة الجيش الحر، إضافة إلى الفوقية والتعالي التي مارسها معظم أعضاء مكتبه التنفيذي، ظناً منهم أن تلك الكراسي التي جلسوا عليها تشريف لا تكليف، علاوة على أن المساعدات التي تسلموها باسم الشعب السوري كانت تنفق بسخاء بالغ على تحركات وأسفار بعض أعضائه، ونزولهم في فنادق خمس نجوم، بينما يعاني الشعب في الداخل من ضائقة مالية شديدة. لا غرو فإن معظم شخصيات المجلس كانت مغمورة، لم يسمع بأسمائهم أحد قبل الثورة، لذا استغلت هذه الشخصيات القنوات الفضائية لإبراز أسمائها على أنها البديل الحقيقي والفاعل للنظام، ولوحظ أن سياسة الظهور الإعلامي على القنوات الفضائية أضحت هدفاً لهم، بدل أن يقدموا شيئاً للثورة، يسهم في دفع عجلتها لإسقاط طاغيتها الذي لا يرحم. بعد أن أدرك المجتمع الدولي أن هذا المجلس لم يقدّم شيئاً للثورة، طوال مدة عام، سوى التشدق بالخطب الرنانة، وإضاعة الوقت في التسول على أبواب الدول الغربية، للاعتراف به ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب السوري. وبعد الفضائح التي قام بها بعضهم من اختلاسات وسرقة أموال تبرعات ومساهمات دول العالم للشعب السوري، ناهيك عن تهميشه للكثير من الشخصيات المعارضة في الخارج، كان لا بد للمجتمع الدولي، بعد خيبة أمله في هذا المجلس، من البحث عن بديل حقيقي يكون مقبولاً عند السنّة الذين يمثلون غالبية الشعب. لهذا كله، وتحت ضغط المجتمع الدولي، خصوصاً بعد صدمة مسرحية الانتخابات المزيفة التي حصلت في الدوحة، والتي أعلن فيها عن انتخاب «جورج صبرة» رئيساً للمجلس الوطني، على رغم فشله حتى في نيل مقعد في الأمانة العامة، سارعت قطر إلى توجيه دعوة إلى الكثير من شخصيات المعارضة من خارج المجلس، من ذوي التوجه الإسلامي المعتدل، للحضور إلى الدوحة، ثم بعد مفاوضات عسيرة انبجس عنها هيئة جديدة أطلق عليها اسم «الائتلاف الوطني»، وتم انتخاب معاذ الخطيب رئيساً لهذا الائتلاف بالتزكية. في البدء كانت مواقف المجتمع الدولي منسجمة تماماً ومتوافقة تجاه الاعتراف بهذا المولود الذي طال انتظاره، علّه يحقق تطلعات الشعب السوري. إذ أعلنت، منذ اليوم الأول، دول مجلس التعاون الاعتراف بهذا الائتلاف، ثم توالت بعدها اعترافات بعض الدول الغربية، ولكن ما أن انتهى شهر العسل حتى بدأ الصراع على الكراسي، تبلور هذا الصراع جلياً بعد تكشف فضيحة انتخاب «غسان هيتو» رئيساً للحكومة الانتقالية؛ تلك المسرحية الهزلية التي شاهدها الكثير مباشرة على القنوات الفضائية. ثم جاء بعدها مطالبة التيار العلماني الائتلاف بإعادة هيكلته وتوسعته ليشمل أكثر من 25 مقعداً لهم فيه، تتابع بعدها مسلسل نشر الغسيل الوسخ على الفضائيات، إذ ظهر بعضهم في الفضائيات ليشن هجوماً شديداً على الائتلاف وعلى جماعة الإخوان المسلمين في سورية، بسبب استئثارها في المجلس الوطني ابتداءً، وبالائتلاف انتهاءً. قال أحدهم: إنه لن يسمح أن تتحول سورية إلى واحة إسلامية، وأن معركته المقبلة ستكون مع الإسلاميين. الحقيقة التي يجب أن يُصدع بها أن معظم هؤلاء العلمانيين ترك المعركة في الداخل وفر إلى الخارج، ومن بقي منهم في الداخل برسم معارضة الداخل، ليسوا إلا صنيعة النظام بامتياز، وتحت جناحه. بل إن غالبيتهم، من القوميين والشيوعيين وخلافهم، لم يكونوا إلا الحديقة الخلفية لحزب البعث. تركهم حافظ الأسد خصيصاً ليتكئ عليهم بأن نظامه ليس ديكتاتورياً. أحداث الأسبوع الماضي كان حافلاً في تخبط المعارضة السورية السياسية، إذ اجتمعت الهيئة العامة للائتلاف في مدينة إسطنبول بهدف زيادة عدد أعضائه، واختيار رئيس جديد بدل معاذ الخطيب. امتدت تلك الاجتماعات إلى ثمانية أيام أفضت، بعد ضغوط شديدة من سفراء بعض الدول الغربية، إلى زيادة عدد أعضائه ليصل إلى 114 عضواً، غالبيتهم من العلمانيين الذين لا قيمة لهم في الداخل، وفي التأثير في مسار الثورة. بل والذي زاد الطين بلة أن ضموا إليهم ثمانية نساء من ذوات التوجه العلماني؛ علماً بأن هؤلاء النسوة اللاتي أضفن لم يكن دورهن في الثورة إلا سفسطة الكلام على الفضائيات، متجاهلين أن الشعب يذبح في الداخل، وأن هذا الموضوع آخر همومه، ولم يتمكن أعضاؤه في نهاية الاجتماع من انتخاب رئيس جديد له. المؤشر الأبرز في ماراثون إسطنبول وأروقته السياسية كان حجة الغرب ومسوغاته في الضغط على الائتلاف لحشر أسماء أولئك العلمانيين والليبراليين النكرات بأنه يريد ضمانات تحفظ حقوق الأقليات، بينما في الحقيقة أن الأكثرية السنيّة هي التي تحتاج إلى ضمانات، ولكن العارفين ببواطن الأمور أسروا إلى أن حشر أسمائهم كان للضغط على الائتلاف للقبول بحضور مؤتمر «جنيف -2»، الذي من أهم جدول أعماله التفاوض مع النظام على بقاء بشار في السلطة إلى عام 2014، فوصل الإحباط بالداخل إلى مرحلة عدم الثقة بالمعارضة السياسية الخارجية بأطيافها كافة، والتوجه الانكفائي إلى الداخل للبحث عن شخصيات وطنية حقيقية تتكلم باسم الشعب، بل إنه حين أجريت أخيراً إحصائية في «الإنترنت» حول نسبة تمثيل الإتلاف للشعب تبين أنها لا تصل، في أفضل الأحوال، إلى 5 في المئة. * باحث في الشؤون الإسلامية.