حاز فيلم «إن شاء الله»، للمخرجة الكندية أنييس باربو – لافيته، على جائزة الجمهور في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي عندما عرض في تظاهرة «بانوراما». من الممكن الإسهاب في دلالات هذا الفوز، وما يعنيه أن يحصد فيلم يُقدم قصة قاسية عن القنوط الفلسطيني ويرافق شخصيات فلسطينية إلى لحظة انفجارها العنيف المدوي، على إعجاب جمهور العاصمة الألمانية. الأمر المؤكد إن التغيير، وعند الحديث عن مواقف ومشاعر من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أصاب منذ أعوام مزاج الجمهور الأوروبي، إلى الدرجة التي يحصد فيلم يتبع مسار شخصيات تتحول تدريجيا بفعل الظروف المحيطة وانسداد الأفق إلى أقصى حدود التطرف، على جائزة الجمهور، في واحد من أكثر مهرجانات أوربا السينمائية جذباً للمشاهدين. فيلم «إن شاء الله» والذي وصل الصالات الهولندية أخيراً، هو الثاني الذي يعرض تجارياً خلال هذا العام، ويتعرض لموضوعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويحمل توقيع مخرجة من بلد بعيد جغرافيا من الشرق الأوسط، فقبله عرض فيلم المخرجة الفرنسية لورين ليفي «ابن الآخر». يتشابه الفيلمان برغبتهما بالوقوف على مسافة واحدة من الصراع المعقد، فالقصص تبدو مقسمة بعناية بين طرفي الخلاف، كما يسعى الفيلمان إلى إفراد اهتمام متساو لشخصياته المتنازعة على الشاشة، ف «ابن الآخر» هو عن عائلتين، فلسطينية واسرائيلية، تدفعهما حادثة غريبة لكي تَصطدم إحداهما بالأخرى، حيث إن خطأ المستشفى بتبديل الطفلين اللذين ولدا للتو، والذي حدث قبل عقدين من الزمان، سَيَخلق الدراما، التي تسعى بجوهرها للتشكيك والهزء المبطن من معتقدات طرفي الصراع «الحاسمة» ويقينهما من مواقفهما. المسافة الممكنة ينقسم وقت الطبيبة الكندية «كلوي» في فيلم «إن شاء الله» بين قرية فلسطينية وإسرائيل. هي تعمل النهار كله في مشفى لعلاج النساء الحوامل في قرية فلسطينية تقع في الضفة الغربية، على الحافة تماماً منها، يحدها الجدار الإسرائيلي العازل، وتعود كل مساء إلى شقتها في إسرائيل. بين نهارات الطبيبة المجهدة في العيادة الشعبية المزدحمة، ومساءاتها الهادئة في المدينة الإسرائيلية، سيمضي معظم وقت الربع الأول من الفيلم. الطبيبة الكندية الشابة محاطة أيضاً بالشخصيات من جانبي النزاع، هي صديقة وجارة لجندية إسرائيلية تؤدي خدمتها أحياناً على الحاجز الإسرائيلي الأخير قبل الدخول للضفة الغربية، وستتقرب الطبيبة في زمن أحداث الفيلم من امراة فلسطينية حامل من ناشط فلسطيني ينتظر عقوبته في السجن الإسرائيلي. الفيلم الذي بدأ كمراقب لما يجري حوله، ملاحقاً الطبيبة الكندية التي تكتشف العالم من حولها، سيغوص في نصفه الثاني في وحل الصراع، كما إن الشخصيات العربية التي بدت في النصف الأول صعبة المراس، منغلقة على ذاتها، مجروحة إلى درجة العطب، بسبب طول النزاع وأثمانه البشرية والنفسية الكبيرة، ستكشف في النصف الآخر من الفيلم عن مكامن ألمها وتاريخه، فعائلة المرأة الفلسطينية ستطلب من الطبيبة مساعدتهم للوصول إلى قريتهم المدمرة منذ عام 1948، التي تقع الآن في إسرائيل، على الجانب الآخر من الجدار العازل. لكن الرحلة التي بدت في البداية كنزهة صيفية، ستستدعي سريعاً جراح العائلة كلها، وتنتهي بغضب جديد يضاف إلى ما تحمله أصلاً. حرب من ؟ «إنها ليست حربك»، تهمس الجندية الإسرائيلية لصديقتها الطبيبة الكندية، لكن الآوان فات للأخيرة، فهي صارت في منتصف هذا النزاع وانتهى الأمر. الفيلم أراد لها أن تحمل مسؤولية ما، أن ترمز لعالم خارجي يراقب هذا الصراع منذ عقود من دون أن يتدخل. يتغير مناخ الفيلم إلى السوداوية الشديدة في ربعه الأخير، ويضيق الأفق حقاً على شخصياته الفلسطينية، لكن هذا لا يبرر الخيار الأخير الذي اتخذته الكندية الشابة بالإقدام على الفعل الذي يقدمه الفيلم، والذي كان صادماً حقاً، ولا ينسجم مع التقديم الأول للطبيبة كامراة متوازنة، تعرف دورها في المنطقة التي اختارتها لعملها الخيري التطوعي. صوِّرَ عديد من مشاهد الفيلم قرب الجدار الإسرائيلي العازل، وهو -أي الجدار- الذي صار بعد أعوام على بنائه يرمز لأشياء عديدة، إنه نهاية الجغرافيا لفلسطينيي الضفة، جدار الأحلام لبعضهم، مكب النفايات الإسرائيلي. الفيلم يُصور كل هذا بجمالية لافتة، مركزاً على الحياة التي تكوّنت على جانب الجدار، الأطفال المشردون الذين يقتلون الوقت قريباً منه، رسومات الحرية عليه، والتي يقع أغلبها فوق أكوام النفايات والطين المُتجمع على حَوافه.