هي الشخصية الرئيسة الوحيدة في الرواية، تحتل معظم المشاهد والأحداث، وتحضر في أكثر الحوارات، وبالتالي نراها أكثر الشخصيات تمركزاً في وسط الحركة العامة للشخوص، بل ليس من المبالغة القول بأنها الشخصية الوحيدة المتمركزة في قلب الحركة المتصلة، المتداخل بعضها في بعض من صفحة (7) حتى صفحة (232) بين غلافي الكتاب، أي أنها قلب الكتاب كله، لنأخذ مثلاً الفضاءات التي تمثلها الشخوص التالية: أم هلال، هلال، خالد، شرابة، فراجة، غلابة، يوسف البار، أبوحمد، بل حتى زوجها الذي انتقمت منه، كل هذه الشخصيات تؤلف مجتمعة الحلقة الاجتماعية العامة التي تدور حولها. ولكن كل شخصية من هذه الشخصيات تتحرك بطريقة مغايرة عن الأخريات، وفي خط مداري مختلف يأخذ مساره، ويتحدد قربه وبعده من مستوى العلاقة المباشرة التي تربطها بها، فليس كل المشاهد التي تشكلت بين كل شخصية من هذه الشخصيات من جهة وبينها من جهة أخرى تتألف بالتساوي مع المشاهد الأخرى، لا من حيث المسافة العاطفية والروحية ولا من حيث الفعالية والتأثير.. هلال على سبيل المثال ليس بينها وبينه تقارب عاطفي على الإطلاق، وبدهي أن ينتفي التواؤم الروحي، لكن تأثيره السلبي في نفسيتها لا يمكن إنكاره، وأشد من ذلك وأقسى ما كان بينها وبين زوجها، إذ كان تأثيره السلبي في حياتها مدمراً للغاية، ولم يكن هناك شيء من الحب بل الكثير من الكراهية والنفور، ومن الناحية الإيجابية يقع يوسف البار على مسافة قريبة منها على المستوى العاطفي والتأثير الإيجابي، في حين يتمتع الشيخ خضر بمسافة روحية مهمة كان لها أثر كبير في توازنها النفسي ومقاومتها الانهيار. أم هلال تضيء بالقرب منها كأم بديلة، فراجة كأخت متفهمة، غلابة كأنموذج نضالي على قدر من الوعي، وعلى العكس من ذلك لم تحصد شرابة إلا البُعد والازورار. هذا هو في شكل عام الفضاء الاجتماعي الذي نشأ من حولها من دون تخطيط منها، بعد إقدامها على الانتقام من زوجها بإحراقه وهو نائم على سريره. من بيتها الذي كان يعني خروجها منه أنها تستعيد «إنسانيتها وحواسها الضائعة»، وأنها نتيجة لذلك تتحرر من كابوس ثقيل خانق حبس روحها وقيد حركتها وحال بينها وبين أن تعيش في شكل طبيعي، من ذلك البيت الذي تركته يشتعل من الداخل، التقطت طفليها على عجل ليقينها أنها «عالقة في العفن» ويتحتم عليها الفرار مع طفليها من هذا العفن، وقد فعلت ما خطر ببالها بسرعة كبيرة، وفي شكل يكاد يكون مرتجلاً، بعدما رأت من زوجها ما رأت في غرفة النوم. غير أن شيئاً ما سبق لحظة الانتقام بلحظات، انطفأ النور فجأة في البيت بعد انقطاع التيار الكهربائي، فتلقت اختفاء النور المفاجئ على أنه رسالة موجهة إليها لتفكر في خلاصها، «لكل شيء أوان ينطفئ بعده»، هذا ما أسرت به إلى نفسها قبل الدخول في اللحظة التالية، وكأن ثمة مغزى من انقطاع التيار الكهربائي، لاسيما وأنها كما يبدو ذات حواس متفتحة بدرجة لا بأس بها على الماحول، كأنما هناك مركز استقبال في وعيها يتلقى الإشارات والرسائل من الخارج، وذلك كما يعتقد من وطن نفسه على طرائق تراسلية تنشط بينه وبين الأشياء من حوله، أو لعله حدس انبلج في داخلها، وليس ضرورياً أن يكون خلاصياً أخلاقياً، وإنما كمن يلقي إليها بفكرة إنقاذية، ولا أكثر من إنقاذية، تستقر فيها خطوتها اللاحقة، ويجب عليها إن أرادت الخلاص النهائي أن تعتنق هذه الفكرة إلى درجة الفعل من دون تردد. عود ثقاب واحد تبدأ الرواية من هذه الزاوية بجالون مليء بالكيروسين لم تتردد في استخدامه طعاماً لعود ثقاب واحد، وهذا بدوره لم يتوان عن إتمام المهمة التي خلق من أجلها، احترق رأسه الأسود الصغير ليوقظ الكيروسين المسكوب، فامتلأ البيت بعد فرارها مع طفليها برائحة لحم يحترق ودخان جنائزي ينتشر. من هذه الاندفاعة الصاعقة انقذفت إلى حياة جديدة غشيتها وحدها وتغشتها حتى الثمالة، وقد فارقت طفليها، وبات مهماً للغاية أن تعيش متخفية عن الأنظار، متكتمة إلى حد بعيد في التعريف بنفسها كما هي على حقيقتها. تحدث أشياء في طريق العاطفة، وأشياء في مسرب الطمأنينة، وأخرى على حواف الجسد، ومثلها في مضمار التجربة الحياتية، وما يشبه هذا وذاك في مرتقى الوعي. تتحرك وتائر القلب وتتعثر، تأمن وتخاف، تنأى بطهرانية جسدها لكنها تواجه بمضايقات، تتعلم من كسب يدها الذي كان قليلاً على أية حال أن مباشرة العمل بنفسها في سوق «البساطات» الشعبي يمنحها سعادة الاعتماد على الذات. تجد عند غلابة، المرأة المتعلمة التي تعبر عن آرائها حتى في الشأن السياسي وتعلق على ما يحدث في بلاد «سيّان» من غليانات واضطرابات سياسية، تجد عندها قيمة التفكير بوعي، وهو الأمر الذي لم يكن عسيراً عليها فهمه لكونها متعلمة هي الأخرى وخريجة علم اجتماع، وتتابع منذ صغرها ما يستجد خارج أسوار البيت مما له علاقة بشؤون الحياة عموماً، اسمها قبس، شابة إضافة إلى طفلين، هذا يعني أنها أم وأن لديها من يناديها بأمومتها، لكنها لم تبهت فيها نضارة الزمن بعد، وكان بمقدورها أن تشغل المسافة بين العمر النضر نسبياً وكونها أماً بخطوات كثيرة عامرة بالرضا والغبطة، لولا أن رجلاً مثل نصل صديء ومعوج دخل في حياتها مدة تسعة أعوام فأتلفها ببهيمية مفرطة، وعلى رغم ذلك التقطت صفّارة الحياة من جديد، وإن كانت بطريقة يبدو فيها الفم عند النفخ ملتوياً ك«فم خياط» بتعبير كافكا، وراحت تصفر للفرص الجميلة علها تجيء. من مجموع خمسة رجال دبت فيهم حياة الفكرة الروائية في الكتاب، بحسب تخصيص المؤلفة، كان هناك أربعة منهم سيئون وبعضهم في غاية السوء، ومن محصلة أكبر من جهة عدد النساء اللاتي لاقينها وتعرفت إليهن، لم تشذ عن قائمة الطيبة والعفوية سوى «شرابة» الفتاة الأنانية وعائلة زوجها بالطبع، ففهمت بعد تجارب أنها بدل أن تصفر لما ترغب من فرص، عليها أن تصفر للمصادفات، فقد تحمل مستقراً ومستودعاً لربما كان أفضل الخيارات، ومن ذلك أنها تتساقى راح مواءمات عاطفية لا شبهة فيها مع المؤذن الطيب يوسف البار، فتوشك في المرحلة الأولى من جاحاتها البوحية أن تسفر عن وثيقة شرعية تعلن اقتران الاثنين، بيد أن المؤذن الطيب يتراجع وينكفئ إلى الخلف خوفاً من افتضاح أمرها في ما لو دفعت باسمها الصريح في وثيقة الزواج، وهي المرأة التي تبحث عنها مع عائلة الزوج المغدور جهات رسمية للقبض عليها، عندئذٍ لا يتبدى ممكناً أمامها إلا نغمة ذات إيقاع محتمل الحدوث من صفارة الحياة بأمل أن توافق مصادفة في الطريق تمحضها عطية ربانية تسوق إليها المؤذن الطيب مرة أخرى، أو لسماع أخبار سعيدة عن طفليها بعدما أودعتهما رعاية أخيها ثم رحلت. مع الوقت والضحك والمطر وأشياء أخرى: الوقت في الرواية أكثر حضوراً من الزمن، وأشد تماساً مع قبس ومشاغلها اليومية وتوتراتها النفسية وانفعالاتها الشعورية تجاه ما يحدث لها وما يدور حولها، غير أن هناك أجزاء من أوقات ليلية تحضر أكثر من سواها، فالفجر مثلاً حضر 12 مرة، بدأت الأولى في الصفحة (9) بهذه الصيغة، «الساعة تشير إلى الرابعة فجراً»، ثم توالت أوقات الفجر بصيغ مختلفة إلى أن انتهت تقريباً وليس حصراً بصيغة «ظلمة ما قبل الفجر»، بينما لم ترد لفظة المساء في شكل إجمالي إلا قليلاً، في حين تكررت لفظة عصر أو عصاري 8 مرات، أما الوقت الذي يبدأ من أول النهار حتى منتصفه فورد 9 مرات. يشير ذلك إلى وعيها الحاد بحركة الوقت، فهو تارة يضرب في عمق الليل فيجيء فجراً وقد هدأ معظم الكائنات وخفت الحركة ونعم الهواء وشف، فيكون بذلك أشبه بلحظة سكونية تعتمر نداوة آخر الليل وخشوعه، وتارة أخرى ينتأ الوقت في وعيها نهاراً حيث كل شيء حولها يزحم شيئاً آخر، أو يمتزج به أو يقوضه، أو يستحوذ عليه ويخضعه لإرادته. كما هي حياة البشر ومراوحتها بين الخير والشر، والحق والباطل، والصراع والتعايش. الوقت نهاراً، في أشد حالات قبس عمقاً وسطوعاً، إن هو إلا حلبة لانقضاض شيء على شيء أو لاجتثاثه، ذلك أن النقطة المحورية في وعيها بالآخر على الجانب الصراعي تشكلت في الأعوام التسعة التي قضتها برفقة زوجها القتيل فتلونت بها والتاثت بها، غير أنها حينما تنسى حركة الوقت إذ يمر، كأن تكون في مشهد يستحق أن تجرب فيه السرور، تستدعي ذاتها بنقاء لافت فتروح تشبعها ضحكاً، والضحك في حياة قبس نادر عموماً، لكنها حينما تأتي اللحظة المناسبة تغرق في موجة ضحك صافية، وحدث هذا لها أربع مرات لا أكثر، الأولى في الصفحة رقم (62) بمعنى أنها طوال الصفحات السابقة كانت تحمل بؤساً وحزناً لم تقو على الفكاك منهما. في هذه المرة الأولى التي لم تضحك قبلها منذ أعوام كما تقول «تنطلق من قلبها ضحكة صافية»، في رد فعل على «زغاريد أم هلال» لما رأتها الأخيرة في انشراح نفسي قابل لاحتواء أن تضحك. المرة الثانية توسطت من صفحة (119) بهذه العبارة «ضحكت قبس من أعماق قلبها»، تجاوباً مع لحظة انبساط مهدت لها إحدى «بياعات البسطات» الشعبية التي تعرفت عليها للتو، والمرتان الثالثة والرابعة مع المرأة إياها في الصفحتين (120 و121). أربع مرات فقط كان نصيب قبس من الضحك طوال ثلاثة أعوام هي كل الزمن الروائي التخييلي في العمل، وحين ننقب في أجواء الأعوام الثلاثة عن مطر يهطل بغزارة أو خفيفاً، نعثر على أربعة إدرارات مطرية أولها في الصفحة (90) وكان خفيفاً، لكن السماء «تهطل بغزارة» في الصفحة (116)، ثم خفيفاً أول الأمر، لكنه «ما لبث أن تحول إلى وابل غزير» في الصفحة (153)، ومثله تقريباً في الصفحة (156) انتهاء بالصفحة (225) حينما «بدأت السماء ترش». إذاً الشح في لحظات الضحك يماثله شح في حالات المطر، والمدى الزمني تقريباً هو نفسه ثلاثة أعوام، ويجدر التذكير بأن الرواية بدأت بمقتل الزوج، وكل ما تلا إنما يعد ضمن خطة الاختفاء القسري التي ستتفكك حلقاتها لاحقاً حينما تمسك بها جهة البحث الرسمية. على الضفة الأخرى، نجد النقيض من هذا كله على رغم ضآلته، فعدا عن تجربتها المريرة مع زوج مات حرقاً، هناك أحبولات يطرحها على طريقها ذوو سوابق في «نسونجية» ركيكة ومرَضية، مثل هلال الفاشل أخلاقياً وسلوكياً، وخالد المتودد إليها لإسكات اعتمالات شهوانية تستعر فيه، ومثل أبوحمد جارها المتلصص من ثقب جيرة خالية من التفاعل الإنساني، وفي شكل عام لم تحظ قبس بفرصة عادلة في فترة هربها وتخفيها لتقول إنها ضحية، وهذا صحيح إلا قليلاً، ولكن أيضاً لتبرهن أنها لم تنكسر تماماً، بل لا يزال لديها عامل المراهنة على حقها في البدء من جديد والبحث من ثم عن حياة لا تشبه الحياة السابقة ولا تتشبه بها، غير أن ظروفاً خشنة ذات علاقة بأسباب اجتماعية وثقافية بالطبع حالت دون ذلك، وجبهتها عن اختراق الدخان الذي تعالى من مخدع زوجها حين غادرته ركضاً. * روائي وكاتب سعودي.