الذاكرة خوَّانة كما يقول فرويد، لأنها لا تلتفت إلى صاحبها حين يناديها أو يستنجد بها، بينما تهاجمه حين يكون منشغلاً بسعادة أو متعةٍ ما. وحتى لا يشعر المرء تجاهها بالمشقة والذنب والإرهاق، فإنه يلجأ أحياناً إلى تدوين يومياتٍ يسطَّرها بعد لحظةٍ رهينة للاستياء، العاطفة، التفكير، الألم، الانسجام، أو حتى المغامرة. ويبدو أن هذا ما حاوله الأديب العراقي عبد الستار ناصر حين غامر بنشر يومياته في رواية بعنوان (على فراش الموز) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وإن لم يستطع هو ذاته أن يصف هذا العمل، غير أنه كما يقول على جانب كبيرٍ من الجرأة لأن كتابة الرواية تحتاج إلى (حلمٍ يتكرَّر) أو بالأصح (ذاكرة وقحة). ورغم أنَّه يكرِّر في أكثر من موضع بأن ما جاء فيها ليس بالضرورة قد عاشه، إلاَّ أنه فضَّل كشف الجانب الأكبر والمستور من يوميَّاته بشكلٍ جريحٍ وموجع لكنه سافرٌ وفاضحٌ في أغلب الأحيان، فلاشيء مهم يمكن أن يخسره بعد أن مبكراً خسرته عائلته. (الذكريات ستقتلني في يوم ما، الذكريات مؤامرة كبرى، أنا واحد من ضحاياها). من نفسي.. أستغرب كثيراً لأنني كنت أحد الذين يستنكرون هذا النوع من الذاكرة، اعتراضاً ربما على ما قد يتخللها من شغبٍ لغوي، وأحداثٍ قارصة تطلق دخاناً كثيفاً وفوضى شديدين. هذه الروايات كانت تصيبني بالرفض، الرعب، النفور، والحيرة: إن كان هؤلاء الأشخاص قد عاشوا حياة كهذه.. فلماذا لم يعافوها بعد؟. لكنني حين قرأتُ محمد شكري منذ زمن ولأول مرة في "الخبز الحافي" سرعان ما تبدَّد معظم ما كان يصيبني من جرَّاء هذه ال(ذاكرة الوقحة) التي كان يحلم عبد الستار ناصر باستعادتها من أجل الكتابة، وأيقنتُ بأن الروايات التي تعتمد على السيرة الحقيقية من المفترض لها أن تحضر كما هي بخشونتها، رعونتها، قبحها، إنسانيتها، فتنتها، أخطائها، دناءتها...، ولكن ما يحدثُ غالباً في ساعة النشر أن كلّ ما هو مفترض أن يكتب يصبح مرفوضاً وعصيَّا على الكتابة. وبلا وعي يهرب الروائي من الحقيقة نحو تعمُّد البطولة، المثالية، الرومانسية، ومحو الأخطاء للاستعاضة عنها بزلاَّتٍ متناقضة أو هفواتٍ تصلح للغفران، وذلك حتى تبدو تلك السيرة مقنعة لنا كقرَّاء فقط، وليس لمؤلفٍ يعلم وحده بأن ما كتبه ليس إلاَّ فبركة بيضاء، تلميعاً لحياة عاشها، وتمرَّد عليها حتى تعطَّلت عن الصدق. هذه الفبركة لم يلجأ إليها محمد شكري وعبد الستار ناصر على الأقل، ونظراً لتشابه معطيات الروايتين رغم اختلاف المكان والزمان بينهما.. إلا أن ذلك هو الذي عكس تماماً صراحة قاموسهما غير المراوغ مهما كانت مفرداته عنيفة، عارية، وملعونة. إنهما ببساطة لم يلمِّعا حياتهما الاجتماعية ولم يزخرفاها. وبشكلٍ لافت يظهر عبد الستار ناصر متجسداً في (رواية ابن رشدي) اسم البطل الذي اختاره، والذي من خلاله ومنذ اللحظة الأولى يمكن اكتشاف ملمحٍ أساسي من ملامح روايته، حين كان يقفز من حانةٍ إلى حانة، ومن عاشقة إلى معشوقة، من بحر إلى بحر ومن بلد إلى بلد أبعد. فشخصية (رواية) تدخل حاملة معها عبثية الحياة وقسوتها في الكثير من المشاهد الواخزة والألفاظ الخشنة، وكل هذارته الذاتية التي يلوح بها للمرة الثانية بعد كتاب (حياتي في قصصي). وإن كان قد استعار لنفسه اسماً غريبا هو (رواية) إلا أنه جاء على ذكر عددٍ من الأسماء الحقيقية التي عاشت معه في تلك الحقبة مثل (فوزي كريم - منذر الجبوري - محمود جنداري - حكمت وهبي - محسن اطيمش...). العراق بالنسبة إلى (رواية) مقسومة إلى اثنين في كل شيء: الكرخ/الرصافة، مسلم/كافر، بعثي/شيوعي، سنّي/شيعي، ولم تكن عائلته تنتسب إلى أحد من هؤلاء كما يزعم، وإن كان يحترم الحالة التي عليها هذه العائلة بافتراض أنها لا تنتمي إلى اليسار ولا شأن لها باليمين، لكنه يكرِّر في كل فصل من فصول الرواية، بل في أغلب مقاطعها بأنها عائلة لم تكن لتستحق الحياة، إذ يعتبرها شيئاً يعيش على الهامش، تافهة بنسبة أعلى من بقية العائلات، لأنها تفهم الحياة على (أنها ضحك على الذقون، وإنجاب أطفال بالجملة، والشاطر هو من يأخذ أكثر من سواه). قد يحاول (رواية) هنا أن يبرر شطحاته التي عاشها خارج العراق باعتباره جزءًا من مزاج العائلة التي تركها خلف ظهره، الرعونة نفسها والبربرية كما عرفها، فأصبح مخنوقاً منهم ومن حرمانه وبقايا ماترسَّب من يأسٍ على جسده، وكثيراً ما كانت تداهمه النساء في الحانات بلهجةٍ عربية مطعوجَة: (أرب؟/ عرب)، ويبدو كما يقول الكاتب أنَّ الرجل العربي أكثر شهرة من سواه في تلك الحانات الرخيصة التي تفوح برائحة العرق والمزَّات المخلوطة بالثوم والبصل. (قلت لها: نعم أنا عربي، ودون وعيٍ منِّي نظرتُ إلى فخذيها). فكيف ل (رواية) أن يفهم النساء اللاتي التقاهن خارج مزاج عائلة (تلفانة).. وهو محض قرويِّ جاء من وراء المعنى وحاول أن يرى الحياة، وما كانت المعنى ولا الحياة بالنسبة له غير فراش، لهاث، وخمور. ولهذا فإن تحديد المسافة التي تبعده عن عائلته وليست تلك التي تقربه منها، هي إحدى أكبر همومه في كل مدينة يهاجر إليها، لأنه حتى عندما يحاول إخفاء عيوبه ينكسر خجلا.. كون الآخرين الأجانب سرعان ما يكتشفونها (الحليبية ذات الكرش المدوَّرة كم أذهلتني وكم أخجلتني يوم قالت: يكفي أن تشتمَّ الرائحة حتى تعرف العربي عن سواه، رائحة البعران ستبقى). ويبقى في ذهنه ذات التساؤل : لماذا نفرض حماقاتنا عليهم ونحن لم نزل في مرحلة النهيق.؟؟ (إلى متى سنحكي عن حضارتنا ونحن لم نفعل أي شيء سوى التباهي بالحجر والقبور والعجلة التي اخترعناها منذ سبعة آلاف سنة؟ أي حضارة نحكي عنها ونحن عاجزون عن صنع إبرة؟). طبعا ليس (رواية) وحده الذي عامل المرأة على أنها مفعول به بالدرجة الأولى، ولكنه كبطلٍ يظهر وكأنه المرآة التي تنعكس عليها صور النساء. لقد كانوا العنصر الأكثر ثباتاً في النص، وكل شيء من بعدهم يتغيَّر ،كالأزمنة والأمكنة والأسفار، من دمشق، لبنان، نابولي، فلورنسا، مارسيليا، برشلونة، الإسكندرية، روما، ميلانو، باريس، مدريد، بلغراد، بوخارست، وربما في بغداد وحدها كان يعيد للمرأة فعلها العاطفي (كان اسم المرأة التي نحبها أو التي نتوهم أننا نحبها.. يبقى محفوراً في قحف الرأس)، ولكن في كلِّ مرَّة تظهر امرأة تنطبع بصماتها على ذات المرآة ثمَّ تَحلُّ أخرى وتتواتر بصماتهن، ومهما كانت هذه الأخرى.. يكفي أنها تسدُّ ثغرة في الجسد ولو لليلة واحدة، حتى إذا ما طلع الفجر وضاعت ثمالته ينتبه إلى من كانت تنام بين يديه (رأيتُ مكياجها يسيحُ عن مسامات جلدها، وصارت بعد ساعةٍ واحدةٍ أقربُ شبهاً بكلبٍ أجرب). إنَّما لا جرحَ يمكن أن يتذكَّره أو يوجعه كما أوجعته (مدام كاثي) التي شتمته مع كلِّ العرب السارقين، وهي أيضاً التي غيَّرت وجهة مرآته نحوها لتصنع من (رواية) فضيحةً ليس إلاَّ، (أشعر بالعار يغلِّفني، كيف رضيتُ لنفسي أن أكون محض بائعٍ للهوى على فراشٍ ليس فراشي؟). وعلى مدار الفصول الأخيرة من (على فراش الموز) مازال (رواية) يكرر هذه استدعاء الذاكرة الوقحة ويحدَّث نفسه بالذنب الذي اقترفه معها (عيب يارواية، كلَّش عيب، لقد سرقتها. وتركت كلبها يقارع الموت). وإن كانت الشرطة (تتشابه في كل مكان سواء كنت في علوي الحلة أو باريس، وأن لهم الملامح نفسها وكأن امرأة واحدة فقط هي التي أنجبتهم)، إلا أنَّ (رواية) قد غيَّر أمُّه حين أصبحت المشنقة تنتظره في بغداد، حينها أصبحت الحياة طعنة نجلاء تأتي على حين غفلة، جلطة في القلب.. وربما في الدماغ، ليست أكثر من طعنة وينتهي كل شيء. فعندما نُشرت قصته (سقوط الرايخ الرابع) لم يكن يعرف الناشر بعودة (رواية) إلى بغداد، وسرعان ما تم القبض عليه وجرجرته إلى السرداب التحتي الذي يسمونه (الكنج) ويستخدم لعتاة المجرمين، حيث صار هذا المكان نصيبه الذي عاش فيه سنة من حياته أو (سنة خارج الحياة)، هذا ربما ما جعله مؤمنا بما قاله عن السجون والمعتقلات الإيطالية التي لا تشبه المعتقلات العربية، فحين أضاع جواز سفره هناك لم يكن خائفا من الاعتقال يوما أو أسبوعا، (هذا ما قلته لنفسي عن معتقلات إيطاليا التي لا يموت فيها أحد من الضرب). بين أضلاعه عاش الموت حتى لم يعد يفكِّر به، لقد كان (على يقين بأنَّ ليس ثمة شيء مؤكد في هذه الحياة سوى أننا حتماً سنفقدها، بعضنا يخسرها في السبعين وربما في الستين، حتى أنَّ المئات منَّا خسروها وهم تحت العشرين في حروب لا معنى لها)، وهكذا وكلما مات أحد من أصدقائه كان يخاطبه بالحرقة ذاتها: (بالله عليك..لا تفعلها ثانية وتموت.. عيب). تحت طيّات ظلام (الكنج) وبرودته وجوعه لم يكن يعاملونه كالبشر كان مجرد رقم، دون أب، أو عائلة، أو سلالة، كان مجرد (214)، رقم يسءخر من ذاته، من خوفه الذي كان يبلله كل ليله أثناء التحقيقات: (شنو يعني الرايخ يا كلب؟؟)، فيرد بصوت ذابل: (يعني خوش ولد سيدي). سيرة ذاتية مموَّهة الصنع تهيمن عليها ثلاثة هموم رئيسة (الجنس- العائلة - السياسة)، لأنَّ حركتها مشاعرها، عواطفها، خذلاناتها، تأخذ من الطبيعة طقوسها ولا تعاديها، فشل (رواية) في العائلة والوطن جاء مقابل ولعَه بالفراش، فكان يمضي وقتا طويلا في السرير إمَّا نائماً، ثملا، ضائعاً، أو ممارساً لعلاقة محرَّمة وعابرة. وبما أنَّ السفر هو الحالة العامة التي تغلِّف هذه السيرة التي يحاول أن يبرر همومه من خلالها ويلقي العبء على الاستقرار والسكون اللذين استعصيا عليه، على جسده، وعلى كل صفحة من صفحاته!!، ولو أنَّه وجدهما في يومٍ ما لما عاد إلى الفراش، أقصد فراش (الموز) أو (الموت) كما كان ينتظره مستغلا الجانب الوحشي من الحياة. السرير بحدِّ ذاته كان شخصية محوريَّة من شخصيات هذا العمل الروائي إن صحَّ التعبير، ولا أرغب في تبسيط (فراش) الرواية إلى درجة الابتذال، أو التغاضي عن محرَّماته، ولكنني أظن أن ثمّة شبها بين لعبة (الموز) وبين (الخبز الحافي) الذي طارده محمد شكري. المحيِّر هو أن لقاءات (الفراش) في الروايتين باعتبارها محيطاً ضيقاً وحميماً.. ليست بمعنى مواجهة الحبِّ أو الهيام، إنما بمعنى الانسحاب الروحي من لذعة الخيبة، والذكريات. ومهما يكن ما فعله عبد الستار ناصر فهو يعتبر ذاته أقل فساداً من سواه، (لم يقتل/ لم يسرق/ ولم يكن بعثياً). الكتابة لديه حالة من حالات تفسير أو ترجمة الحلم الذي لا يريد أن يأتي في المنام، ولهذا ربما لم يستعلِ على واقعه، لم يجعله طاهراً ونقياً وملائكياً، لم يلقِ اللوم على الآخرين، إنه يصوِّر الحياة كما حدثت، والفرق واضحٌ بين الكتابة عن العهر، والكتابة العاهرة. انتبهت أخيراً بأنه لا يوجد شيء يدعى (المادة الصالحة للرواية) كما قالت (فرجينيا وولف)، فكل إحساس، كل صفة للعقل والروح يمكن أن تصبح مادة للرواية، انتبهت أيضاً بأنه لا جدوى من روايات تعتمد على صور النجاح والأحداث السطحية أو الخيالية، الروائي ليس طبيباً نفسياً، ليس مرشداً أو مصلحاً أخلاقيا يدعو للفضيلة ويحارب الفساد، الرواية هي الحياة، تعبِّر عن تجارب الإخفاق، السقوط، الفشل، الانحراف، كما تعبِّر عن الحبِّ، الشوق، البطولة والشاعرية. الرواية هي الأشياء الممكنة في الحياة، هي الأشياء المحتملة، هي ببساطة شرخٌ.. أو خدشٌ على وجه الكمال. @ شاعرة وكاتبة من السعودية