يقول باولو كويلو في إحدى رواياته: «يستطيع الطفل دوماً تعليم الناضجين ثلاثة أشياء، وهي: الإحساس بالسعادة من دون سبب، والانشغال بشيء ما، ومعرفة أن يطلب بكل قواه ما يرغب فيه». وهذا صحيح فالطفل لا ماضي له، وفي ذلك يعود كويلو ويقول: «إذا كان لديك ماض ولم تكن راضياً عنه، فانسه وتخيّل قصة جديدة لحياتك وآمن بها. احصر اهتمامك فقط باللحظات التي وُفقت فيها للحصول على ما تشتهيه. وهذه القوة ستساعدك على نيل ما تريد». فوفقاً لرأيه فإن ما هو محتوم في حياتنا ونعتقده ثابتاً، هو في الحقيقة عابر. أمّا الثابت، فهي العِبر التي نتعلمها من المحتوم الذي يمر بنا أو نمر به، ومن هذه العِبر نتعلم فضيلة الصبر في حكمنا المتأني على الأمور. جميل كلام كويلو، ورائعة تلك المعاني التي يقدمها لقارئه، ولكن تطبيقها ليس بسهولة قراءتها، وخصوصاً حين تبحث لأسئلة حياتك عن أجوبة، فاصعد الجبل ومن قمته سترى كل شيء صغيراً، وستنظر إلى السماء والأفق اللامتناهي، وستتأمل خساراتك وأحزانك على أهميتها، فتضمحل في نظرك لسبب لا تدري كنهه، ربما لأنك تركت كل شيء في الأسفل فصار بعيداً، أو لأنك صرت عالياً. على أية حال، كل انسان وله جبل يصعد إليه، وكل عمر وله همومه، ويجب أن نعرف متى ننتهي من مرحلة وندخل في الأخرى بكل همومها، فإذا رحّلنا الهموم القديمة إلى الجديدة فالوزن سيتضاعف إلى أثقل من قدرتنا على التحمّل، ثم ألم نسمع بنظرية الانتقاء؟ فلا بد من أن نحتفظ بأشياء ونتخلى عن أشياء، وإلاّ فسنتحدى أنفسنا ونستفزها، فلمَ نصر على اعتبار العابر محتوماً؟ من تعليمات السلامة في الطائرة أن تضع قناع الأوكيسجين أولاً، ثم تضعه لغيرك كي تنقذه. إنه المبدأ نفسه، فلا بد من أن تُسرع بالتخفيف من حمولتك الزائدة، لتكون مستعداً لأي شيء آخر بعده. هل نحب الماضي أم نكرهه؟ الأكيد أننا إن تذكرنا بعضه فبابتسامة، وربما بحب، ولكن هذا الماضي بعينه لو عاد اليوم لكرهناه، وقد كان للأديب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو معنى جاء فيه أنك قد تحِن إلى الميت، وقد تشعر بحبك نحوه، وهذا على خلاف شعورك تجاهه وهو حي يرزق. فلم ذاك؟ لأن عبئه زال عنك ومعه التزامك، فتحررت في إحساسك تحرراً يشبه إحساسك بالماضي وكأنك تتحسر على فواته، بينما لم تكن بهذه الحماسة وأنت تعيشه، ذلك أنك اليوم تحررت من ضغوطه ومخاوفه، فعرفت كيف تنتقي منه، وتحِن إلى ما استقطعت بخيالك. ثقافتنا حجبت بظلال القلق والشك والخوف والروتين فرصتنا في أن نتحرر من ظلالنا ونعيش، فنطاق فهمنا محدود ومتدرِّج، يتسع شيئاً فشيئاً، وحين يبلغ مدى نعرف معه ما «كان» يجب علينا أن نعرفه، ونحن تحت وصاية الظلال، نكتشف عندها أننا ضيعنا الكثير، وسحبنا معنا الكثير، ولم يكن يلزم كل ما ضيعنا، ولا كل ما سحبنا و«جرّجرنا»، فنجلس على أول مقعد صامتين نسأل حالنا: أي جزء من الحاضر نكرهه اللحظة، ولو مرّ عليه الوقت لتذكرناه لاحقاً بابتسامة وحب؟ نعصر تفكيرنا لأننا نريد أن نميزه منذ اليوم، فلربما لا يسعفنا الزمن ونعود إليه بذكرياتنا عنه، ولنتخيل أن نتبنّى في هذا الوضع المرتبك فلسفة الطفل! فنكون سعداء بلا مبرر، بينما نحن مشغولون ومصرون على اكتشاف ما يستحق حبنا واحتوائنا، مما يهدر وقتنا وطاقتنا، وهو متنكِّر وسط الظلال! الحياة أقصر من ماض نكدِّس فيه الأشياء، ومستقبل نكدِّس فيه المزيد، ولو انتقيت وبأمانة من بين هذا الخزين المكدّس لعثرت على عدد محدود جداً من ذكريات تخطفها فتقفل عليها في صندوقك، أمّا بقية «العفش» فمجرد خردة مكانها النفايات، فلم هذا المخزن المتنقِّل في عقلك تأخذه معك أينما ذهبت وارتحلت؟ نظِّف مخزنك مما علُق به حتى لا تتعثر يوماً بقطعة مهملة فتقع وتقضي عليك، فلربما كانت في بعض التنظيف حياتك، حين تنعتق روحك من ظلالها، ولا تكن ممن تزداد تعاسته كلما استطاع الشعور بسعادة أكبر، أو فلنقُل «براحة أكبر» بعد حملة الجرد التي شنّها على مخزونات عقله وذكرياته. [email protected]