بدا كل شيء معدّاً تماماً. الجيوش في كامل عدّتها. الأعداد غفيرة. الحماسة في أوجّها. الاستعداد القتالي بلغ الذروة. الأعلام ترفرف عالية خفّاقة. والهتافات تجلجل صاخبة رادعة. الأجواء كانت رائعة، والرغبات كانت عارمة حتى ظن كثيرون أنهم باتوا قاب قوسين أو أدنى من تحرير القدس ونصرة الأقصى، لولا مشكلة واحدة فقط تتعلق وفق لغة أهل السينما ب «اللوكيشن». فالجيش الجرار والعزم الجبار كانا يزاحمان حركة بيع الأقمشة وشراء المفروشات في شارع الأزهر عقب صلاة الجمعة أمس حيث بائع المرطبات الجوال لزوم مجابهة شمس ساحة قتال ايار (مايو) الساخنة، وكشك الحلوى والبطاطا المحمرة لزوم «تصبيرة» لهذا الفيلق أو ذاك بين هذه الهجمة وتلك، ومقهى الشاي والقهوة لزوم ضبط القدرات التخطيطية والإمكانات التكتيكية للهجوم على العدو. أما الصيدلية المتاخمة لجيش النصرة، فحققت أرباحاً خيالية من مبيعات أدوية علاج احتقان اللوزتين والتهاب الأحبال الصوتية من فرط الهتاف الجهادي والصياح النصروي. مليونية «نصرة القدس» التي عج بها الجامع الأزهر أمس ونظمتها جماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة لخصت وصورت وعكست وأوجزت المشهد الحالي في ما يختص بتحرير القدس وتخليص المسجد الأقصى مما هو فيه. وقائع المليونية دحضت كل الاتهامات والتنديدات والسخريات التي أطلق لها العنان المصريون من غير أتباع فصائل الإسلام السياسي الحاكم طيلة ال48 ساعة السابقة على المليونية، إذ تفكه المتفكهون وهم يتذكرون صياح الداعية القريب من «الإخوان» صفوت حجازي في قلب ميدان التحرير في تموز (يوليو) 2011 زاعقاً: «على القدس رايحين شهداء بالملايين»، وهو الهتاف الجهادي الذي بزغ وتطور على مدى الأشهر التالية ليتألق في تأكيد حجازي رؤيته «حلم الخلافة» على يد محمد مرسي الذي سيؤسس الولاياتالمتحدة العربية «وستكون عاصمتها القدس الشريف». وتوالت المطالبات «الفايسبوكية» و «التويترية» بتحويل الهتاف إلى خطة عمل لإعادة حشد وهيكلة شحن ملايين «جمعة تطهير القضاء» وعائلات «الإخوان» الممتدة الآتية من شتى الأقاليم وأقاصي المحافظات إلى ميدان التحرير لتأييد قرارات الرئيس الصادرة منها والتي لم تصدر بعد والملغاة وتوجيهها إلى القدس لتحريرها. ولأن فضاء الجهاد الافتراضي لا حدود له، ولأن سقف هتافات التنديد والوعيد لا تحده سوى السماء، فإن فضاء التشكيك وسقف التنديد كذلك انطلقا من دون قيود. وبينما كانت بضع مئات تهتف في جنبات الأزهر: «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود»، رد آخرون افتراضياً: «فايبر فايبر يا يهود جيش محمد سوف يعود بس المواصلات زحمة». وبينما كان عشرات المتحدثين يتكالبون على ميكروفون الخطابة فيزعقون ويهللون ويصيحون: «يا أقصانا مش هنسيبهم، لو مليون أميركي سندهم»، كان آخرون يرسمون خرائط توضيحية لعلاقات الشراكة والدراسة والتربيطات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تجمع بين «الإخوان» والأميركيين. لكن الهتافات في الأزهر توالت: «يا أقصانا يا حبيب هنهد لهم تل أبيب»، وهو ما دفع الخبثاء إلى التساؤل عن سبب التأخير في الهدم، لا سيما أن أدوات الهدم معروفة وليس من ضمنها الهتاف والكلام. لكن سرعان ما تأتي الإجابات الشافية. الصائحون والمهللون في الجامع الأزهر رددوا مطلباً واحداً لا ثاني له في اللقاءات التلفزيونية السريعة التي أجرتها معهم القنوات المختلفة: «كل ما نطلبه هو فتح باب الجهاد». إلا أن المطالبة بفتح باب الجهاد لم تفتح إلا أبواباً عارمة من التهكم والمقاطعة. فصائل إسلامية عدة قاطعت «مليونية نصرة الأقصى» بحجة مطالبة الحاكم بفتح باب الجهاد، وهو الباب نفسه الذي طالبت جماعة «الإخوان» الرئيس السابق حسني مبارك بفتحه في العام 2006، وهي أيضاً الحجة التي زادت من تأجيج الإثارة المثارة حول الباب. فمن قائل إن الداعية السلفي المثير للجدل حازم صلاح أبو إسماعيل أغلق الباب وأخذ المفتاح وأصيبت قدمه بشد عضلي يمنعه من فتحه، وآخر مرجح أن يكون هاتفه النقال غير مشحون، ما يجعل الاتصال به ليأتي بالمفتاح متعذراً، وآخر يبعد عن التهكم ويقول: «مفتاح الباب بات معكم، فافتحوه وانطلقوا للجهاد». وعلى رغم وضوح مثل هذه الرؤية، إلا أن المجتمعين في الجامع الأزهر لم يرونها كذلك. فقد هتفوا كثيراً «محمد مرسي مش مبارك» على رغم استمرار إغلاق الباب واختفاء المفتاح. وهناك من رأى في اختفاء المفتاح أمس ميزة، في ضوء العدد القليل جداً الذي لبى نداء الاحتشاد لتحرير القدس ونصرة الأقصى، وهو العدد الذي جاء صادماً للبعض، بما في ذلك قناة «الجزيرة مباشر مصر» المعروفة بميلها إلى الجماعة الحاكمة. المراسل المرابط بين الهاتفين أجاب بكل براءة على مذيع الاستوديو قائلاً إن العدد قليل للغاية، ولما استشعر محاولات المذيع لدفعه إلى «تغيير أقواله»، قال: «يمكن اعتبار الحدث اليوم تمثيلاً نسبياً أو مؤتمراً». وعلى غير العادة، تدخل الضيف «الإخواني» من على الهاتف منقذاً ما يمكن إنقاذه مصححاً ما قاله المراسل، فأكد أن «الأعداد ليست بالقلة التي يصفها المراسل، وبعدين الموضوع ليس في العدد». الموضوع ليس في العدد، ولكنه في ما وراء العدد، فيبدو أن التيار الإسلامي لم يكن متوحداً على غير عادته، بعدما انشغل بعض فصائله بحكاية «المد الشيعي» ومسألة التشيع وال34 سائحاً إيرانياً الذين قلبوا دنيا بعض الجماعات السلفية ولم يقعدوها، فأثارت الرعب ودقت أبواباً أخرى غير الباب الباحث عن المفتاح. وبين تصريحات سلفية بأن مئة شيعي مسلح في الأقصر ينتظرون «ساعة الصفر» التي لم يعلنوا فحواها أو متى تنطلق، وأخرى تتهم الرئيس محمد مرسي بأنه خان الأمانة وبدأ يسمح بالمد الشيعي في مصر على رغم تأكيده في برنامجه الانتخابي أنه لن يفعل، وها هو قد فعلها، قرر بعضهم مقاطعة مليونية أمس، في حين لم يعلن آخرون حضورهم أو غيابهم ربما وسط مشاغلهم في مناهضة «المد الشيعي» أمام منزل القائم بالأعمال الإيراني، وهو ما أنساهم «نصرة الأقصى». لكن هذا لم يوقف الهتافات المتأججة: «على القدس رايحين شهداء بالملايين» من داخل الجامع الأزهر، وهو الهتاف الذي تفعّل بعد الظهر، فراح المتظاهرون لكن إلى البيت.