لماذا تمكنت حفنة من الدول الصغيرة الواقعة عند الطرف الغربي من أوراسيا (كتلة أوروبا وأوراسيا) بدءاً من عام 1500، من السيطرة على بقية أنحاء العالم، وهي مساحة تضم بعض أكثر المناطق كثافة سكانية، وبعض أكثر المجتمعات تقدماً في شرق أوراسيا؟ هذا السؤال لا يزال يتصدر نقاشات واسعة في العالم، ولا تنجو منها مجتمعاتنا العربية التي طرحت منذ أكثر من قرن، على لسان متنوري النهضة، سؤالا: لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟ وهو سؤال يكتسب راهنية اليوم، ويقض مضجع النخب المثقفة والقوى السياسية، الباحثة عن أجوبة مقنعة، بعيداً من منطق المؤامرة الإمبريالية التي توجه سهامها نحو عالمنا العربي. يقدم كتاب «الحضارة، كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق والغرب؟» للكاتب الأميركي نيال فرغسون جواباً علمياً على السؤال العربي عن أسباب التقدم، وتفسيراً علمياً للمسار الذي قطعته الحضارة الغربية وعناصر القوة التي مكنتها من أن تهيمن على العالم. وعلى رغم أن النقاش حول الحضارة الغربية وتفوقها لا يخلو راهناً من شكوك في إمكان استمرار هذا التفوق، في ظل تصاعد قوى عالمية خصوصاً في الشرق الأقصى، أي في اليابان والصين والهند، كما تشهد أميركا اللاتينية صعوداً مشابهاً في القوى، وعلى رغم كل ما زعمه مؤدلجو الحضارات من نزعات عرقية وعنصرية عبّرت عن نفسها بنظرية صراع الحضارات التي قال بها برنارد لويس وطورها لاحقاً صموئيل هانتنغتون، والتي ذهبت إلى التبشير بهذا الصراع الذي سيندلع ضد الحضارة الغربية عبر الحضارات الشرقية والإسلامية، وهو منطق لا يمت إلى الصراع الحضاري بمقدار ما هو تعبير عن صدام الأصوليات في العالم. على رغم كل هذه الالتباسات تبقى استعادة عناصر القوة للحضارة الغربية أساسية لكل المجتمعات التي تسعى إلى الخروج من التخلف والدخول في العصر ومواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي، والإفادة مما تقدمه العولمة إلى شعوب هذه المجتمعات، ومن ضمنها مجتمعاتنا العربية. يركز الكتاب على ستة عناصر يرى الكاتب أنها كانت في أصل نهوض حضارة الغرب وسيطرتها، ويوردها بعد أن يرفض رفضاً قاطعاً نظرية الهيمنة الإمبريالية على العالم غير الغربي ونهب ثرواته ووضعها في خدمة التقدم الغربي، وهي نظرية رائجة في شكل واسع خصوصاً في المجتمعات السائرة في طريق النمو. يتصل العنصر الأول بما يسميه «المنافسة»، أي بطبيعة النظام الاقتصادي والسياسي الذي اعتمده الغرب منذ خمسة قرون، وهو قائم على الحرية والليبرالية. الحرية السياسية والاقتصادية التي بدأها المركانتيليون مطلع القرن السادس عشر، وطورها وأعطاها آدم سميث بعدها النظري من خلال الشعار الشهير الذي أطلقه: «دعه يعمل، دعه يمر». مهدت نظرية المنافسة إلى تكوين أنظمة سياسية تعتمد اللامركزية، وصولاً إلى تكوين دول قومية، كسرت القيود السياسية التي كانت تمنع التبادل التجاري الحر. العنصر الثاني في قوة الحضارة الغربية هو «العلوم»، التي انطلقت من دراسة الطبيعة، مستندة إلى طريقة مختلفة في فهم العالم الطبيعي، ضمن وجهة مركزية تسعى إلى تغييره. كرّس الغرب جهوداً ضخمة في التطوير العلمي، وتوظيف هذا العلم في الاختراعات ذات الوظائف المتعددة، وبناء المصانع التي شكلت منعطفاً في تاريخ أوروبا الحديثة، بما جعلها متفوقة في صناعاتها على سائر دول العالم، وبما مكنها من أن تغزو العالم من طريق الاقتصاد. ترافق ذلك مع توظيف هذه الثورة في العلوم في تطوير القوة العسكرية وإقامة ترسانة مسلحة ساهمت في السيطرة العسكرية على مناطق واسعة من العالم. العنصر الثالث هو «حقوق الملكية»، والمقصود به أساسا حكم القانون الذي يشكل الوسيلة الوحيدة لحماية الحقوق الشخصية ومنع التعديات على المواطنين، والحد من تحكم قوى خارجة عن الدولة في حياة الإنسان الغربي. من هذا العنصر انبثق لاحقاً فكر سياسي، شكلت الديموقراطية عماده الرئيس، خصوصاً مسألة حل النزاعات بالطريقة السلمية، وإقامة تسويات بين مختلف مكونات الشعب. هذه النظرية ستهيمن لاحقاً على فكر التنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتشكل الأساس الذي تقوم عليه السلطات. العنصر الرابع هو «الطب»، بحيث تمكن الغرب، في سياق التطور العلمي، من تقديم اكتشافات هائلة على الصعيد الطبي، كان لها أثر كبير في إطالة عمر الإنسان في أوروبا، وتوظيف هذا التقدم في تحسين مستوى الحياة لدى البشر، سواء في المجتمعات الغربية أم في المستعمرات التي انتقلت إليها بعض نتائج الاختراعات في المجال الطبي. العنصر الخامس هو «المجتمع الاستهلاكي»، والذي يعبر عنه بنمط الحياة المادية السائدة. وأدت الاكتشافات العلمية وازدهار الصناعة والتجارة والزراعة إلى تطور واسع في نمط العيش الأوروبي، وإلى توافر ثروات وأموال لدى شرائح واسعة من المجتمع، انعكس كله في طبيعة الاستهلاك الذي بات يطاول ميادين واسعة في الملبس والمأكل والمشرب ووسائل اللهو... وهي عناصر أساسية في تسريع الدورة الاقتصادية وما يتبعها من زيادة الرساميل والثروات. أما العنصر السادس والأخير فهو «أخلاقيات العمل»، فالعمل ارتفع إلى أعلى المثل في أوروبا، بل إن بعض النظريات الدينية، خصوصاً منها البروتستانتية، رفعته إلى مصاف الأولويات التي على الإنسان التزامها، وبات العمل مقياساً رئيساً من المقاييس الأخلاقية. جرى اعتبار العمل تتويجاً للعناصر الخمسة التي تمت الإشارة إليها، فمن دون تقديس العمل كان من المستحيل تحقيق الإنجازات التي حققتها الحضارة الأوروبية. لا شك في أن العناصر المشار إليها، هي عناصر قوة تحتاجها كل المجتمعات، وإذا كانت لها غلبة في الغرب سابقاً، إلا أنها تتخذ طابعاً شمولياً عالمياً بصرف النظر عن الأصل في تطورها. تحتاج المجتمعات العربية إلى التمثل بهذه العناصر في صراعها من أجل التقدم. في هذا المجال، لا يفيد مجتمعاتنا أن تظل واقفة على أطلال الحضارة التي سبقت حضارة الغرب. ولعل تجاوز هذا الماضي، من دون إنكار أهميته على الشرق والغرب، يشكل أحد الممرات الضرورية لهذا التقدم المنشود. في هذا المعنى يكتسب الكتاب أهمية في ترشيد مجتمعاتنا نحو اكتساب عوامل القوة والنهضة.