هل يستمر وإلى متى تفوق النموذج الحضاري الغربي في عصر تستيقظ فيه أمم قديمة كالصين والهند وتنهض قوى جديدة بازغة؟ وهل تنجح الحضارة الغربية في تجديد نفسها وهي أكثر حضارات التاريخ إبداعاً على الصعيدين الاقتصادي والتكنولوجي وإلهاماً في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، أم أن هذه الحضارة الغربية تعيش مرحلة أفولها كما توقع الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة منذ زمن؟ الحقائق والمعطيات وحدها هي ما ينبغي الاحتكام إليه لإثبات أو نفي ذلك بعيداً عن التهويمات النظرية والآراء الانطباعية. (1) استكمالاً لمسلسل الأرقام الذي احتشدت به مقالاتنا السابقة فإن الغرب الذي كان يسيطر منذ مئة عام على نحو 50 في المئة من مساحة العالم لا يتحكم اليوم سوى في 25 في المئة فقط. وبعد أن كانت السيطرة الغربية في الحقبة الاستعمارية تشمل نحو 48 في المئة من سكان العالم فإنها اليوم لا تتجاوز 10 في المئة. صحيح أن السيطرة الغربية قد غيّرت من شكلها وأبدعت في أدواتها لتبدو بفعل العولمة أكثر نعومة ودهاء إلا أنها تتقلص وتتراجع في نهاية المطاف. وعلى صعيد القوة العسكرية لا يمتلك الغرب اليوم أكثر من 10 في المئة من مجمل القوة البشرية العسكرية في العالم بعد أن كانت هذه النسبة تبلغ 45 في المئة قبل مئة عام. يرصد المحللون الأميركيون أنفسهم أنه كان على الولاياتالمتحدة الأميركية لكي تغزو العراق أن تنشر 75 في المئة من طيرانها التكتيكي في منطقة الخليج، و42 في المئة من دباباتها الحديثة، و46 في المئة من جنود البحرية (المارينز). يضاف إلى ذلك أن مساهمة الغرب في الناتج الصناعي العالمي هبطت من 84 في المئة عقب الحرب العالمية الأولى لتصل اليوم الى نحو 25 في المئة فقط. أما مساهمته في الناتج الاقتصادي العالمي فقد هبطت بدورها من 70 في المئة لتصل الى 30 في المئة. يمكن قراءة الأرقام السابقة -وجميعها من مصادر غربية- عبر أكثر من زاوية واحدة. فهي تكشف عن قلق غربي مصحوب بمراجعة لعناصر القوة والضعف في الحضارة الغربية مقارنة بما بلغت القوى غير الغربية. ما يقلق الغرب في القوى الآسيوية هو قوتها الاقتصادية وصعودها التكنولوجي وربما في المستقبل القريب تنامي قوتها العسكرية. يكفي أن نعرف أنه إذا بلغ معدل اقتناء الصينيين لسيارة خاصة المعدل الغربي فإن الصين قد تحتاج إلى كل الناتج العالمي للنفط لسد احتياجاتها. أما العالم الإسلامي فهو يقلق الغرب من ناحيتين، أولاهما نموه السكاني، وثانيهما القوة الكامنة في العقيدة الإسلامية باعتبارها عقيدة حركية تكتسب في العقل الغربي بعداً جهادياً لأسباب تاريخية. ولهذا حين سألت الصحافية الأميركية هيلين توماس الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن: لماذا نذهب إلى أفغانستان والعراق لقتل الناس هناك؟ ردّ عليها جورج بوش بسخريته المعهودة قائلا: نحن مضطرون لأن نذهب إليهم هناك لئلا يأتوا إلى هنا! والأرقام السابقة تكشف من جهة أخرى أن العالم الغربي يسعى إلى تعبئة نفسه وتحفيز قواه من خلال البحث عن عدو. وقد أجادت أميركا والعالم الغربي لعبة صناعة العدو بدرجة عالية من الإتقان والذكاء. فبعد أن نجحت أميركا في القضاء على الاتحاد السوفياتي وزال الخطر الشيوعي عليها كان لا بد من بحثها عن عدو جديد، فالامبراطوريات الكبرى تحتاج دائماً إلى عدو لكي تشحذ قواها وتصقل حواسها الاستراتيجية. ولا شك في أن الشعور بالخطر ينمي غرائز الدفاع عن الذات ويستنفر المقاومة. وإن لم يكن الخطر حقيقياً فمن الممكن صناعته وتزييفه وإقناع الناس به. هذا ما حدث حرفياً لتبرير غزو العراق. والمستفيدون من لعبة صناعة العدو أطراف كثيرة مثل شركات السلاح الكبرى التي لا تنمو وتزدهر وتربح إلا في أجواء الصراع وإلا فإنه الكساد الكبير!! وهناك أيضاً قطاعات اقتصادية تستعد لتعمير ما تدمره الحروب لتتذوق كعكة الازدهار على أشلاء الأبرياء. وهناك أيضاً قوى وأحزاب يمينية تجد في صناعة العدو وسيلة لإيقاظ الغرائز الشعبوية وكسب الأصوات الانتخابية. ثم هناك أيضاً هذه الروح الغامضة التي تسري في أوصال الإمبراطوريات الكبرى فتدفعها إلى مزيد من التوسع والهيمنة لاستباق حركة التاريخ سواء لمواجهة مخاطر حقيقية أو لمجرد التحرش، أجل التحرش الذي لا يبدو سلوكاً فردياً فقط بل يصبح أحياناً سمة لعقلية الإمبراطوريات الكبرى التي لا تستطيع أن تعيش في سلام دائم قد تظهر في مناخه قوى أخرى منافسة أو مناوئة. والمشكلة أن التحرش لا يكون عادة إلا في مواجهة الضعفاء وقليلي الحيلة. شيء من هذا يحدث منذ سنوات، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، في منطقة الشرق الأوسط، والعرب والمسلمون على وجه التحديد هم طليعة ضحايا هذا التحرش. بل إن الشعوب الغربية نفسها تمثل ضحية من نوع آخر لسلوك الهيمنة الغربية، فقد ضجرت هذه الشعوب من رؤية مشاهد الدم والدمار في أفغانستان والعراق وفلسطين، وأخذت تتبلور في الأفق حركات وتيارات الإنسانية الجديدة في شمال أوروبا بل وأميركا ومناطق أخرى في العالم. ومن الممكن لهذه التيارات أن تشكل عنصراً من عناصر قوة الرأي العام الغربي في الانحياز لقيم العدالة وحقوق الإنسان. المشكلة أن العرب والمسلمين لا يحسنون التواصل مع هذه القوى الإنسانية الجديدة، وحين يتم هذا التواصل فإنه يأخذ من أسف أشكالاً عاطفية سطحية ولا يتم بالتنظيم والعمق اللازمين. (2) من سوء حظ العرب أنهم يمتلكون المغريات التي جعلتهم أشبه بغزالة شاردة لم يكن ليتركها صياد ماهر. من موقعهم الاستراتيجي وثروتهم النفطية إلى أسواقهم الواسعة النهمة، ثم زاد سوء الحظ سوءاً بفعلة 11 سبتمبر التي راح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف من الأبرياء في حادث تدمير برجي التجارة العالمي. ففي مساء ذلك اليوم الحزين تم تدشين اعتبار الإسلام العدو الجديد للحضارة الغربية حتى أصبح الوعي الغربي يخلط بين العروبة والإسلام. لم يستطع هذا الوعي الغربي العقلاني أن يفلت من شرك التعميم، بل لعله كان ينتظر مثل هذه الفرصة ليمارس التعميم حتى يبرر لنفسه رد الفعل الباطش في أفغانستان والعراق وكأنه تصوّر أن أسامة بن لادن يقيم في خيمة على ضفاف دجلة والفرات! كان خطأ الوعي الغربي، بل خطيئته، أنه تجاهل عن عمد الأسباب الحقيقية لظهور الأصولية الاسلامية الجهادية، بل تظاهر بالسذاجة وكأنه لا يدري أن سياسته وتحالفاته في المنطقة العربية هي أحد بل أهم أسباب ظهور هذه الأصولية. على أية حال جاء باراك أوباما إلى الحكم برؤية جديدة للعلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي. كان خطابه الشهير في جامعة القاهرة في عام 2009 بليغاً فصيحاً مثيراً لأحلام البعض وموحياً بنوايا أميركية طيبة وإيجابية تجاه العرب والمسلمين. لكن، لم تمض شهور حتى تبين للكثيرين أن المسألة لم تتجاوز في الواقع مجرد إعلان نوايا، سرعان ما أسهم التعنت الإسرائيلي وعوامل أخرى في تعقيده وإنهاكه قبل أن يبدأ تنفيذه. هكذا ينضح المشهد مرة أخرى بسؤال صناعة العدو، وللسؤال شقان: شق سياسي استراتيجي وشق آخر ثقافي. الشق الأول من السؤال يندرج في إطار لعبة الأمم، فمصالح الإمبراطوريات الكبرى تأتي فوق كل اعتبار أو تنظير أو مبدأ. أما الشق الثقافي فإنه يستحق حديثاً مفصّلاً. (3) حين كتبت في الأسبوع قبل الماضي أن إسرائيل هي القاعدة المتقدمة للحضارة الغربية لم أكن أعرف أنه بعد أسبوعين سوف يصرّح رئيس الوزراء الأسباني السابق خوسيه أزنار بأنه «حين تسقط إسرائيل تسقط معها الحضارة الغربية»، داعياً إلى حملة غربية لمساندة إسرائيل. ألا يعني هذا أن التفسير الثقافي ما زال صالحاً لتقديم إجابة عن معظم قضايانا الكبرى ابتداء من خيبتنا الديموقراطية حتى وجود إسرائيل في المنطقة؟ الواقع أن عبارة خوسيه أزنار ليست مجرد زلة لسان أو تصريحاً أرعن بل هي تعبير مقصود وكاشف عن رؤية سياسية وفكرية غربية يؤمن بها الكثيرون في الغرب. رؤية تضع الصراع العربي - الإسرائيلي بل مجمل علاقة العرب والمسلمين بالغرب في رؤية أوسع وأخطر للصراع الحضاري بين أمم حرة ومتحضرة يمثلها العالم الغربي وبين شعوب عربية وإسلامية تمثل ثقافتها خطراً على الحضارة الغربية الحديثة. ربما يحسب لخوسيه أزنار أنه صرح علانية وقد ترك منصبه الرسمي بما يعتقد به غربيون كثيرون لكنهم لسبب أو لآخر لا يفضلون الجهر. عبارة خوسيه أزنار تؤكد أن أي شكل من أشكال حوار الثقافات لن يقدر له النجاح ما لم ينطلق من مناقشة الشكوك والظنون بيننا وبين الغرب بكل صراحة ووضوح، ومن تفنيد نظرية صناعة العدو التي يمارسها البعض في الغرب بدأب ضد العرب والمسلمين، وهي نظرية غربية قديمة في شقها الثقافي. والعجيب أن مفكراً مثل صموئيل هنتنغتون يعتقد أن فكرة وجود عدو أمر ضروري للشعوب الباحثة عن هوية (وهو يقصد هنا العرب والمسلمين) أي أننا –من وجهة نظر هنتنغتون- نحن الذين نصنع العدو وليس الغرب!! كما لو أن كل ما مارسه الغرب من احتلال وحروب وغزوات ضد الشعوب العربية على مدى قرن كامل من الزمن كانت مسؤولية العرب والمسلمين!! فكأن الضحية أصبح مسؤولاً عن فعل الجاني! ينسى هنتنغتون وكثيرون غيره أن الأدب الغربي كان يكرس ويبشر منذ زمن بعيد بصناعة العدو. أليس كذلك حين يكتب ديبون على لسان أحد شخوص روايته البحيرة الميتة: «لا يمكن أن يكون هناك أصدقاء حقيقيون من دون أعداء حقيقيين. إن لم نكره ما ليس نحن فلن يمكننا أن نحب ما هو نحن. هذه هي الحقائق القديمة التي نعيد اكتشافها بألم بعد قرن أو أكثر من النفاق العاطفي...». (4) الشواهد تؤكد أن العالم الغربي بتأثير اليمين المحافظ الجديد الذي تغلغل في مراكز السلطة وصناعة القرار يسعى في دأب وطيش إلى البحث عن عدو، واصطناعه إن لم يكن موجوداً، لتبرير توسعه وشرعنة هيمنته واستبقاء تطور التاريخ، لكي يقطع الطريق على المنافسين والأنداد الجدد. السؤال الآن هو: هل نحن بالفعل مختلفون ومتخلفون عن الحضارة الغربية إلى حد يبرر اعتبارنا مصدر الخطر والعدو المحتمل في لعبة صراع الحضارات؟ تحتاج الإجابة لأن نتحلى بقدر من الموضوعية والشجاعة في قراءة واقعنا ونقد أنفسنا بقدر ما نفعل ذلك في مواجهة الغرب. فالعالم العرب-إسلامي في معظمه لم يتصالح بما فيه الكفاية بعد مع ثقافة احترام الاختلاف، ويحمل على أكتافه إرثاً طويلاً وثقيلاً من العنف والدماء والإقصاء لمجرد الاختلاف في الرأي. ولسوف تلاحقنا دائماً حقيقة أن عدد الضحايا العرب في الحروب والمنازعات العربية الداخلية يفوق عدد ما سقط من ضحايا عرب في حروب مع عدو خارجي. هذه حقيقة مؤلمة ومرعبة تختزن الكثير من الدلالات. نعم، لا أحد ينكر أن الحروب والصراعات الداخلية لم تكن وقفاً على العرب وحدهم بل مزقت الكثير من الأمم والحضارات الأخرى. وما زالت الحربان العالميتان الأولى والثانية خير شاهد على أن الحضارة الغربية لم تنج هي الأخرى من ظواهر العنف والاقتتال الداخلي. لكن، يظل سجل العرب في الصراع والتشرذم والاختلاف أشد وطأة وأطول تاريخاً، ثم أنه ما زال مستمراً حتى اليوم في غير مكان عربي. فهل يصلح ذلك مبرراً مقنعاً لأن يقوم الغرب بشيطنة العرب والمسلمين وتصويرهم في الذهن والواقع على أنهم مصدر الخطر على حضارته؟ من جانبنا لا شك أننا نقدم للعالم الغربي بهذا الإرث من العنف والاقتتال وبهذا الرصيد الحالي من الصراعات والفتن الداخلية حيثيات الاتهام ومسوّغات التربص. والغرب بدوره يوظف في دهاء هذه «الحقائق» لمزيد من تعميق «وهم» أننا مصدر الخطر. أصبح الغرب يتعامل مع بعض البلدان العربية والإسلامية وكأنه شرطي يطبق قانون الاشتباه، في مواجهة أشخاص اشتهر عنهم إثارة الشجار والشغب لم يرتكبوا جرماً ما ولكنه يعتبرهم من ذوى السوابق ، والأخطر أنه يحاسبهم على مجرد النوايا. ربما ينسى كثيرون أنه حين أثبت هانز بليكس أن العراق ليس لديه أسلحة دمار شامل أصبح مبرر غزو العراق وإطاحة صدام حسين أن النظام العراقي السابق كان «يعتزم» امتلاك هذه الأسلحة! أصبح العقاب إذاً على مجرد النوايا والأفكار... هكذا تبدو علاقتنا المأزومة بالغرب منذ أمد بعيد وكأنها تكرار لا يتوقف لفيلم الأحمق والشرير. (5) على رغم كل ما جرى في علاقتنا بالغرب فالإنصاف يتطلب منا الاعتراف أن الغرب ليس فقط هو اليمين المحافظ الجديد، ولا هو جورج بوش الابن أو ديك تشيني ومجموعتهما، وهو ليس خوسيه أزنار. الغرب هو أيضاً شارل ديغول الفرنسي واولاف بالم السويدي، وهو جماعات الإنسانية الجديدة في شمال أوروبا. الغرب هو أيضاً سارتر وفوكو وفانون وسي رايت ميلز وشبنغلر، وهو نعوم تشوميسكي الذى يقول صراحة أن «أميركا تديرها القوى التآمرية للرأسمالية الكبيرة والحكومة ومراكز القوة في البنتاغون. ولكي تحافظ على وضعها فإن مراكز القوة تسعى الى تجريد البنى السياسية الديموقراطية من مضمونها الحقيقي لكي تهرب من أي تحد سياسي. فالجمهور العام لا بد من إعادته إلى الطاعة واللا مبالاة من طريق ثقافة جماهيرية منحطة وانتخابات سياسية مزورة». ترى هل ما زال يتذكر أحد بكم صوت انتخابي نجح جورج بوش الابن في مواجهة آل غور وكيف تحقق هذا الفوز؟! ها هم مفكرو الغرب أنفسهم يقررون بأن أميركا أقامت إمبراطورية شاسعة من خلال دول إرهابية في أميركا اللاتينية وأعمال عنف وصلت إلى حد الإبادة الجماعية في آسيا والشرق الأوسط وإسرائيل. الغرب يعيش إذاً، باعتراف مفكريه أزمة حضارية يرى البعض منهم أنها تؤذن بمرحلة الإضمحلال والأفول. سيكون أمراً محزناً ولا شك أن الحضارة الغربية- أكثر حضارات البشرية إبداعاً وتقدماً وإلهاماً وتحريراً لطاقات الإنسان- يمكن أن تلقى مصير الحضارات الأخرى السابقة. لا نريد أن نصدق أن نبوءات أوزوالد شبنغلر في كتابه «أفول الغرب» يمكن أن تتحقق. فالغرب الذي صدّر لنا إسرائيل والاحتلال والغزو والدمار لم يصدر لنا بعد قيم الديموقراطية والحرية والإخاء والمساواة !! نعلم أنها مسؤوليتنا ونضالنا، لكن ندرك أيضاً أن الغرب لا يدافع خارج حدوده عن قيم إلا بقدر ما تجلب له من مصالح، ولا ينحاز لمبدأ إلا بقدر ما يحقق له من منفعة! * الأمين العام ل«مؤسسة الفكر العربي»