بموجب ذلك التكوين النفسي الفكري هندس نبرة شادية لها رنين «أنشودة الروح في غابة الخيزران الأنيقة». نبرة تستمد رشاقتها من الإلماحة زهداً في التصريح. كما تكتسب رقتها من قدرة الثبيتي على إضاءة عتمات المشهد الموصوف بالتماعات تصويرية عوضاً عن الإبهار البلاغي، أشبه ما تكون بزخات عطرية متقشّفة، أو خطفة ضوء نحيل في عتمة كالحة. فهو يقيم في «ليل قناديله مطفأة». مترقباً ما يسميه «مفرق الضوء». وبالإضافة إلى ما تتمتع به قصائده من طابع عاطفي، توحي بوجود أصوات مُنشدة ولا مسموعة. هناك إنشاد أوركسترالي حزين، ينبث من وراء ضميره المتكلم، الذي لا يمثل (أناه) أو ذاته المشخصنة، بقدر ما يمثل إنساناً أو شخصية محرضة على ترتيل الوجود. وهذا ما تفصح عنه تضاريس قصائده المصوغة من منظورات حيوية متنوعة، التي تتكثّف ضمن روافد محورية يمكن إختصارها في معجم «الرمل». إذ يؤنسن تلك الذرات المعبأة في أشكال فنية موحية ويتعامل معها بوداعة تضفي على نبرته شيئاً من خدر التأمل المضاعف. كما يختصر عقيدته الشعرية في ترتيلة بدء التضاريس بقوله: «جئت عرّافاً لهذا الرمل». ولأنه مثقف ريفي الهوى، تبدو النزعة المحلية في شعره حاضرة وملحة أكثر من تلك المستعارة أو المفصّحة الجانحة إلى المثاقفة. حيث الرمال والقهوة والنخيل والطين والمعشوقة البدوية بكل معانيها وتمثّلاتها المادية واللامادية. وتلك سمة حداثية أصيلة في تشوفاته الجمالية. فقد تنازل بسرعة عن إغواءات الفضاء المديني بكل مباهجه وضجيجه المنبري. كما انسلخ عن دعاواه الخطابية الثورية، إذ يصف في قصيدة «الأوقات» ذاته المصدومة بكذبة المدن وزيف صخبها بقوله «وأفقت من تعب القرى... فإذا المدينة شارع قفر ونافذة تطل على السماء... وأفقت من سغب المدينة خائفاً... فإذا الهوى حجر على باب النساء». من ذات المنطلق الرثائي يصف نفسه بالبابلي ليُنشد أغنية العودة إلى المكان والمعنى الذي أُنتشل منه «غادر نعليه مرتحلاً في عيون المدينة... طاف بداخلها ألف عام... وأخرج أحشاءها للكلاب ... هوى فوق قارعة الصمت... فانسحقت ركبتاه ... تأوه حيناً... وعاد إلى أول المنحنى باحثاً عن يديه... تنامى بداخله الموت... فاخضر ثوب الحياة عليه». هكذا ارتد إلى مكانه وريفيته ليغني «وضَّاح» بذات الإيقاع «صاحبي... لا تمل الغناء... فما دمت تنهل صفو الينابيع... شق بنعليك ماء البرك». وكأنه يرتد إلى خِفة الطفل الشعورية. فقد عاد ليغني، لا ليشبع ميوله الرومانسية في شكل ارتكاسي إنما بحثاً عن منابع الشعر التي تنحت ملامح ذاته المغتربة. وهنا يُلاحظ أنه نبرته باتت أقرب إلى تراتيل الطقوسي والشعائري، وأميل إلى خطفات ومخاطبات المتصوّفة، وبشكل خاص أقرب إلى التوقيعات القرآنية كما في قصيدته «الأسئلة» التي يتساكن بكلماتها «أنت حل بهذا البلد... أنت حل بهذا البلد». أو حين يردد «سلامٌ عليك... سلامٌ عليك» في قصيدته «تغريبة القوافل والمطر». وكذلك في قصيدة «البابلي» التي يتمتم فيها «مات ثُمَّ أنابْ... مات ثُمَّ أنابْ... مات ثُمَّ أنابْ». وأيضاً في قصيدته «قرين» المعتمدة على نبرة تسكينية أقرب إلى الصمت «قُلْتَ لي: هَيتَ لكْ ... هَيتَ لكْ». على هذا الأساس أعاد تركيب مفاهيم الأدب الملتزم من منظوره الخاص. إذ لم ينقلب على صرامة الأوزان وحسب، كما عبر عن ثورته في «هوامش حذرة على أوراق الخليل». بل أعاد ترسيم علاقته بالعالم. فكانت قصيدته الجديدة ونبرته التأملية الخفيضة إيذاناً بتغيير مواضعات وعيه إزاء الوجود. أي تحرير فكره الجمالي، واستيلاد ذخيرة مغايرة من القيم الشعرية. بمعنى تأليف قصيدة أقدر على التعبير بشكل أفضل عن الحياة المعاصرة واستيعاب صيرورتها. هنا مكمن آخر لحداثة الثبيتي التي تأسست بوعي وإرادة على مفهوم القطيعة مع السائد والمكرّس فنياً. فيما يبدو ثورة تعبيرية انتقل بموجبها من الإيقاعات العالية المفتوحة إلى حميمية النبرة الخفيضة الهامسة. إذ تخفف من الغنائية بمعناها الرومانسي الوزني، واقترب من الترنيمة بطابعها الدرامي. كما بدا ذلك واضحاً في قصيدته «موقف الرمال موقف الجناس» من خلال الحوارية «أي بحر تجيد... أي حبر تريد... سيدي لم يعد سيدي ... ويدي لم تعد يدي». أو حين يتساءل «أيُّ بحرٍ تُجيد... أيُّ حبر تريد». وهكذا انفتحت قصيدته كمسرح لأصوات متعدّدة، هي بمثابة الامتداد لصوته المتشظي، عوضاً عن صوت المغني الأوحد، الذي يراهن على إطراب المتلقي. لتحتشد سياقاتها بالتاريخي والثقافي والميثولوجي، وتذاب بعد استوائها المفهومي في نبرة أنينه الذاتي، بدون أن تفقد معطاها الثقافي كالبسوس، والجوزاء، والمهر العيطموس، وذات العماد، وذي المجاز. ولأن قصيدته تتشكل وتنكتب تحت وطأة الاستيحاش، تبدو مناخاتها أقرب إلى أجواء المناجاة والتبتّل حين يترنم «وكان الحزن متسعاً لأن نبكي فيغلبنا النشيد ... ونسيل أغنية بشارعنا الجديد». وهو الأمر الذي يهبط بنبرته، المتشكلة في كلمات وإيقاع، إلى أدنى درجات الهمس حد المساررة. إذ يقول في قصيدة «أغنية» بما يشبه التمتمة وكأنه يراود نفسه بالصمت «صرت أغني بلا شفتين».