يطلقون عليها «الاستشارية» ربما لصلة الرحم التي تربطها بقصر الاتحادية أو بسبب تركيبة سكانها الأقرب إلى الهامشية وقد تكون عنصراً من عناصر الفوضوية التي يعيشها المصريون منذ تسعة أشهر أو رمزاً من رموز العشوائية التي تتحكم في الرؤى السياسية والاقتصادية، أو مجرد مسمى في مرحلة تتسم بالضبابية. الضباب الكثيف الذي يعيق الرؤية ويمنع الرؤيا ويحول الواقع إلى فوبيا أدى إلى هبوب أقاويل متناثرة عن رؤية سياسية غائبة وهطول أمطار إخوانية غزيرة بعد تلبد السماء بكتل سحاب إسلام سياسي بعضها موقت إلى حين تحقق الغاية وبعضها الآخر متشرذم بعد الطرد من جنة «المشروع الإسلامي»، فإذ بالأمواج المتلاطمة وبحر الوطن الهائج يدفع بأحد أبرز من بقي من سكان «الاستشارية» إلى القفز من «تايتانيك» قبل غرقها. مبنى «الاستشارية» أحد قلاع السفينة التي تتقاذفها أمواج المشهد السياسي الملتبس والوضع الاقتصادي المبتئس يقف حائراً مندهشاً بين العديد من المباني العسكرية في شرق القاهرة. وعلى رغم أن المبنى ليس متهدماً أو متهشماً، إلا أنه يبدو كالأطلال. مكاتب كثيرة، وغرف انتظار عدة، ودهانات حديثة، وما تبقى من وجوه تنم ملامحها عن اكتساب حديث للشعور بالأهمية والانتماء إلى الاستشارية. مستشارو الرئيس محمد مرسي فرحوا على الأغلب كثيراً وقت اختيارهم لهذا المنصب المهم القريب من الرئاسة والمحبب للإعلام والجدير بالاهتمام والمصباح المنير للسيرة الذاتية والمكانة الاجتماعية. لكن شتان بين أمس وقت إعلان الأسماء وتنصيب الشخصيات واليوم الذي تمضي فيه سفينة الوطن قدماً في تخبطها وترجرجها ولم يبق على متنها من يساعد الرئيس في القيادة سوى القليل من الأهل والعشيرة. أحدث القافزين هو أكثر المستشارين إثارة للجدل وتعرضاً للانتقاد وتصدراً للمشهد القانوني الهزلي. المستشار القانوني للرئيس محمد جاد الله أسفر عن مفاجأة سارة لكثيرين وفجر قنبلة بائسة لكثيرين أيضاً. وعكست مواقف اللاعبين على المسرح السياسي تجاه استقالة جاد الله الكثير من التحالفات والمواءمات والالتباسات والانتكاسات التي تئن مصر تحت وطأتها. بعض المواقف يندرج تحت بند «كل يغني على ليلاه» وبعضها يتعجب من أن يكون «آخر المعروف الضرب بالكفوف»، في حين جاءت مواقف الجماعة لتعكس إيماناً جماعياً منظماً ممنهجاً بالمبدأ التبريري: «اللي ما تعرفش ترقص تقول الأرض عوجة». فمن حزب حليف للحكم هو «التغيير والتنمية» يراها «مراهقة سياسية»، إلى ائتلاف جريح هو «الحكمة» يطالب جاد الله بالتوبة ويتخذ من خروج الليث من العرين فرصة لكشف الأسباب الحقيقية لإقالة القيادي السلفي خالد علم الدين من منصبه مستشاراً للبيئة بعد تلويث سمعة وإلصاق تهمة، إلى حركة شبابية منكوبة هي «6 أبريل» ترى أن الاستقالة دليل وهمية المناصب، ومنها إلى حزب مطرود من جنة الحكم «النور» يصف الاستقالة ب «الرائعة»، وآخر يتأرجح بين جنة التحالف مع الجماعة ونار الإقصاء من نعيم الثواب هو حزب «الوطن» السلفي غازل الرئيس بترجيح أن يكون العيب ليس في الاستقالة بل في اختيار المستشارين، وتيار محتار يائس مستاء هو «التيار الشعبي» يرى الاستقالة «غير مهمة» أصلاً، إلى أحد عتاة القضاء الواقع تحت براثن التطهير ومكامن الإصلاح يؤكد (ربما متمنياً) أنها بداية لانهيار مؤسسة الرئاسة برمتها، ومنه إلى مستشار سبق جاد الله في القفز هو أيمن الصياد يقول إن الوضع في حاجة إلى إعادة نظر. وفي خضم السيل الجارف من التنديد والتهليل والشجب والتأييد والصيد في المياه العكرة والشماتة في قرب غرق «تايتانيك»، يظل موقف كل من الجماعة الحاكمة والجماعة العنكبوتية الأكثر بعثاً على الإدهاش وقدرة على الإبداع. فالجماعة الحاكمة نظمت صفوفها سريعاً كعادتها بين جبهات تثني على جاد الله وأخرى تندد به وثالثة تتهدد وتتوعد ورابعة تفضح وتعاير وخامسة تغرد وتدون وسادسة تخطط وتدبر. رموز من الجماعة الحاكمة قالت إن لجاد الله مطلق الحرية في أن يستقيل، أو أن ما فعله أكبر دليل على الديموقراطية التي تعم البلاد، أو أنه كان يتوجب عليه الاستقالة قبل أشهر لو كان الرئيس لا يستشره بالفعل، أو أن استقالته وغيره ممن سبقوه دليل عدم تحمل المسؤولية. وهناك من انبرى من بين الصفوف «الإخوانية» ليلوح بأن جاد الله استقال حين اكتشف أنه لن يحصل على منصب وزاري في التغيير المرتقب، ومنهم من خصص الفقرات وعبأ النشرات التلفزيونية في القنوات الصديقة لمناقشة الاستقالة «غير المهمة» أحياناً لأنها تدل على عدم تحمل صاحبها المسؤولية، و «المهمة» أحياناً بحكم أنها تعكس قيم الديموقراطية ومعاني الحرية، وتكلل ذلك كله مئات الرسائل القصيرة والتغريدات الثقيلة والتدوينات العميقة التي تدعو للرئيس بالتوفيق رغم أنف المستقيلين. أما الجماعة العنكبوتية فتنضح بالكثير. سلسلة من التغريدات يكتبها المغرد الساخر سامح سمير تشير إلى أن «التاريخ سيسجل أن مصر شهدت تقدماً في كل المجالات في عصر الرئيس مرسي وعلى رأسها التقدم بالاستقالة»، ثم يؤكد أن «الرئيس مرسي يقبل استقالة مستشاره القانوني ويحيل أوراقه على فضيلة المرشد»، ويعلن أن «مؤسسة الرئاسة تعلن قبول دفعة جديدة من مستشاري الرئيس من حملة المؤهلات العليا والمتوسطة». آخرون قالوا إنهم يشمون رائحة «الإقالة في الاستقالة» أو يشعرون بطعم المؤامرة أو يستشعرون شبح المسرحية في سيناريو الاستقالة وأن الرئاسة تطبخ شيئاً ما سيلوح في الأفق. وبينما يحبس الجميع أنفاسه انتظاراً لما ستسفر عنه الطبخة، ينقب البعض عن فيلم «تايتانيك» لإعادة مشاهدته، بينما يفضل آخرون مشاهدة فيلم «ابن حميدو» لا سيما مشهد «نورماندي تو» التي دأبت على الغرق.