أمران اثنان دفعاني إلى أن أقترح هذا العنوان المستفْهِم: أوّلهما الملاحظة التي لا شك في أن كلاً منا يتبيّنها في الكتابات العربية، وأعني استعمال لفظي «التحديث» و «التنوير» على سبيل الترادف، أو على الأقل، عطفهما واحداً على الآخر كما لو كانا يعنيان الشيء نفسه. الأمر الثاني، ولعله الأهم، هو تأكيد ميشيل فوكو على «أن الخيط الذي يربطنا بالتنوير، ليس الوفاءَ لمبادئ المذاهب، بمقدار ما هو بالأحرى التفعيل الدائم لموقف ما، أي تفعيل روح فلسفية يمكننا أن نحددها من حيث هي نقد مستمر لوجودنا التاريخي». نتائج مهمة يمكن أن تستخلص من قول فوكو هذا. أُولاها أن التّنوير غالباً ما يتحوَّل عند البعض إلى مبادئ، إن لم نقل إلى شِعارات. وهو عند معظم المتحدثين عنه حِقبة تاريخية، فهو أوّلاً وقبل كل شيء، «قرن» سَمَّى نفسه «عصرَ الأنوار». ثم هو أسماءُ أعلام تبتدئ بفولتير لتمتدَّ إلى روسو ودالامبير وديدرو والقائمة معروفة... التنوير من وجهة النّظر هذه، مجموعة أقانيم يجب الاقتداء بها والحذو حذوها. ونتيجة هذا بالطبع أن التحديث لن يكون إلا هذا الاقتداء ذاته. التحديث من وجهة النظر هذه، تطبيق لمبادئِ الأنوار، إنه المآل الذي آل إليه قرن الأنوار خلال القرنين المتتاليين. النقطة الأساس التي ينطلق منها فوكو هي أن التنوير ليس مجموعة من المبادئ. التنوير أساساً تجذر نوع من السؤال الفلسفي، «وهو سؤال يُؤَشكل في آن واحد كلاً من مسألة الارتباط بالحاضر، مسألة نمط الوجود التاريخي، ثم مسألة بناء الذات كذات مستقلة». التنوير ليس أسماء أعلام، وهو ليس شعارات ومبادئ، ليس حلولاً وإجابات، وإنما هو إشكالات وأسئلة. إنه «روح فلسفية» تطرح مسألة «العلاقة بالحاضر»، ومسألة «ابتكار الذات». وبالمثل، لن تغدو الحداثة حقبة تاريخية أعقبت قرن الأنوار، ولا مجموعة من الخصائص والمميزات التي طبعت مرحلة بعينها، إنها بالأولى تفعيل هذه الروح الفلسفية التي طبعت الأنوار، ونقد متواصل لوجودنا التاريخي. فمقابل التحديدات الكرونولوجية، يضع فوكو ما يمكن أن ننعته بالموقف الاستراتيجي، الذي يعتبر أن وضع الحداثة قد وَجَد نفسه، ولا بد أن يَجِد نفسه على الدّوام، في مواجهة مواقفَ مُضادة. لا يتعلق الأمر هنا بالمقابلة بين البنية والتاريخ بمقدار ما يتعلق بالتقابل بين الهُدنة والتوتُّر. فمقابل النظر إلى الحداثة على أنها «تطبيق لمبادئ»، وتحقيق لشعارات، مقابل النظر إلى الحداثة على أنها مجموعة من المميزات التي تطبع حقبة تاريخية معينة، حيث يتم إيجاد مكان لها داخل يَومِية تتقدمها حقبة «ما قبل»، وتتلوها حقبة «ما بعد»، يقوم موقف مضاد يعتبر أن الحداثة «وضْع». والأهم أنه وضع متوتر مناضل لا بد أن يدخل في صراع مع عوائقه. إنه علاقة متوتّرة مع ما يحدث في الوضع الراهن، واختيار واع ونمط من التفكير والإحساس، وطريقة في السلوك والاستجابة تدل على انتماء معين، وتظهر كمهمة وكمسؤولية ينبغي الاضطلاع بها. هذه الروح الإرادية والنضالية هي التي تجعل فوكو يميز بين التحديث ومجرد مجاراة الموضة، على رغم ما تنطوي عليه هذه الأخيرة بالتعريف من تجديد للأمور، بل قلب لها. وهو يشير في هذا الصدد إلى بودلير الذي يحدد الحداثة بأنها «العابر الزائل غير القابل للضبط»، فيلاحظ بأن الحداثة عند مُنَظّر الحداثة الفنية ليست مجرد الاعتراف بهذا العبور والانفلات، بل هي «أن نتخذ موقفاً خاصاً إزاء هذه الحركة. وهذا الموقف الإرادي لا يوجد قبل اللحظة الراهنة ولا بعدها، بل يوجد فيها». فبينما يقتصر اتّباع المُوضة على مواكبة مجْرى الزمن، فإن الحداثة ليست مسألة إحساس بالحاضر العابر المنفلت وبحثاً عن الذات في خضم ذلك الانفلات، وإنما هي «ابتكار لها». إنها ليست تطبيقاً لمبادئ ولا اقتداء بنماذج، وإنما هي انتقاد لا يكل لوجودنا التاريخي. لا يمكننا، والحال هذه، ربط التنوير بالتحديث إلا شريطة تحديد دلالتيهما على النحو الآنف الذكر، أما إن اقتصرنا على التحقيبات الكرونولوجية، والتحديدات البنيوية، من غير اعتبار لإرادة القوة التني تحكمهما، فلن نكون إلا أمام نماذج تُقلّد، وأقانيم تُكرَّس وتحتذى. * كاتب مغربي