في زمنٍ بعيد، ناءٍ وغائم... كنتُ لم أُحرَم ثدي أمي سوى من أربع سنوات فحسب، وكان طعم الصبّار المر، لا يزال عالقاً بطرف شفتيّ، حين ترك أبي دكانه مفتوحاً، وذهب الى مدرسة طولون الابتدائية الجديدة، بجوار سور الجامع. راح الأسطى فرج، كما هو، ببنطلونه الكاكي القديم والصديري البلدي، المبقع بالغراء الناشف، فوق القميص الكاروهات المُشمَّر حتى الكوعين، ذهب للمدرسة والقلم الكوبيا على أذنه اليمنى، والدوسيه الورقي تحت إبطه، وقدَّم للأستاذ نصر، سكرتير المدرسة، الأوراق المطلوبة كاملة: ملف به شهادة ميلادي، وست صور، أربعة في ستة، وخمسة طوابع معونة الشتاء بخمسين قرشاً، وعاد للبيت في الظهيرة، على غير العادة، مبسوطاً، ومزهواً بما فعل. سخرتْ أمي: «فتحت عكا يا خيّ». كشّر أبي في وجهها المبتسم ابتسامة خفيفة، لا تكاد تُرى، وهو يجلس في موقعه المفضل، وسط الكنبة البلدية، أراح ظهره الى المسند القطني الطويل خلفه، وفرد يديه على المسندين الآخرين، رفع رأسه وعينيه الى سقف الحجرة الخشبي، وراح يحدق هناك بعينيه السوداوين الضيقتين، كان يحدق في السقف كأنه يرى أشخاصاً، وزمناً آتياً، ورسوماً على السقف، لا نراها، فألجمتْ أمي لسانها، وعبستْ واجمة. سقط صمت طويل علينا، وفي الهواء، وعلى بلاط الغرفة. ببطءٍ وهدوء، عاد أبي من عليائه، وهبط من تأملاته، وتحديقه في السقف، ونقّل نظراته بيننا، فأخفضنا بصرنا، وأخيراً صرح، بسُلطة ولهجة رئيس الحيّ، بأنه للذهاب الى المدرسة لا بد من مريلة وشنطة. مريلة بنيّة من تيل «نادية» اللميع، وبحزام من القماش يُلف حول الخصر ويُربط، أما الحقيبة فتجاهل وصفها. أَذكرُ... اشترت أمي ثلاثة أمتار من تيل نادية لخياطة مريلتين وبنطلونين، من دكان «أبو جبة» للأقمشة والمفروشات، بشارع الصليبة، ومشينا، أنا وأمي، في طريقنا لبيت روحية الخيّاطة لتأخذ مقاساتي، وتخيط المريلتين. في كل طريق نمشي فيه معاً تثرثر أمي فوق أذني بما أعرف، وبما لا أعرف، تميل عليّ برقبتها ووجهها، وتكلمني كأنها تفضفض مع واحدة، صاحبتها. أمي تحب أن تحكي للآخرين ما يعرفون، وما لا يعرفون. أمي تقول لي، خالتك روحية مقطوعة من شجرة، تسكن وحدها في غرفة واسعة بالطابق الثاني من بيت عليمي الفكهاني، وغرفتها سكن ومحل. روحية كهلة بيضاء قصيرة، تلمع بشرة يديها وذراعيها كمرآة، تبرق رقبتها الطويلة كرقبة زرافة حديقة الحيوانات، ويكاد نهداها الكبيران يندلقان من فتحة صدر جلابيتها. جلابية، نصف كم، ساتان صفراء، فاقعة، بأشجار خضراء، وورود حمراء. أمي تتعجب من أن روحية تلبس دائماً «على الموضة» في البيت، وفي الشارع، وحتى في يوم خروجها الأسبوعي الوحيد، لزيارة مقام السيدة «سكينة» بشارع الخليفة. كل جمعة، تخرج عندما يصل لشارعنا، عبر الميكروفون، صوت الشيخ عبد النبي يتلو قرآن الجمعة في جامع السيدة سكينة، فيتداخل مع تلاوة الشيخ أبو عريفة لسورة «الكهف» في جامع طولون. خالتك روحية تظهر في الحارات والشوارع بفستان أبيض «مكسم» من صنع يديها، يلمع بالخرز الفضي والذهبي، وعلى رأسها طرحة بيضاء طرزتْ عليها أوراق شجر خضراء وعصافير ملوّنة صغيرة، تفيض منها جدائل شعرها الطويل. منظر روحية «فضايح»، لكنها فضائح ضرورية، روحية نفسها إعلان متحرك عن مهارتها الفريدة في حرفتها. بلفظ أمي: «روحية باترون على مانيكان». كل جمعة تخرج خالتك روحيّة من بيتها رافعة ذيل فستانها بيدها اليسرى، ويمينها على غطاء الحلة الكبيرة، المستقرة فوق رأسها. حلة ألومونيوم ضخمة، ثقيلة، ملآنة لحافتها بالفول النابت ومائه البني، وحلقات البصل الصغير. على باب المقام تنزل حلّتها وتجلس على العتبة خلفها، وتبدأ إعداد ما ستوزعه على الناس. بعناية تضع روحية الفول في شقق الأرغفة الساخنة، وتصب ماء الفول والبصل في كيزان صفيح، وحولها الناس منتظرين يدها التي ستمتد بالرغيف الساخن. في دقائق قليلة تكون روحية قد وزعت جميع ما معها على حبايب ستنا سكينة، وتركت حلتها لشعبان المجذوب. شعبان يأكل ما بقي في الحلة بهدوء وبنظرات شكر وامتنان لروحية. أما نهار الليلة الكبيرة لمولد السيدة سكينة فتستبدل الخالة اللحم بالفول، ويكون عيداً للغلابة. روحية أشيك امرأة رأيتها في طفولتي وصباي. تنفرج أسارير أمي، وتنصح، بلا تفكير، أم العروس التي تجهز لابنتها: «روحي لأبلة روحية يا أم العروسة. روحية الخيّاطة أشطر خياطة في طولون، والخليفة، والسيدة، يا أختي». حين فتحت لنا بابها، لم تكن تعصب شعرها بإيشارب، كأمي. شعرها الطويل مفروق من النصف، لامع بالفزلين، والخصلات التي تحيط بوجهها، وتنساب فوق كتفيها وحتى صدرها، رمادية وبيضاء. كان لها وجه رائق صبوح بلا كُحل، أو أحمر خدود، وجهها المدوّر، كطبق صيني، أثار أناملي كي ألمسه وأتحسسه، لكن ابتسامتها الحزينة أرهبتني قليلاً حين انحنت نحوي: - «اسم الله عليك يا حبيبي». لم أقل شيئاً، أخجلتني قبلتها الطويلة على خدي. تركتني، واحتضنت أمي «ازيك يا بت يا بطة». معظم ما في غرفة روحية أبيض ونظيف: الحيطان، السقف، الحبال، والدولاب الكبير. وسريرها الإيديال الصغير مفروش فوقه ملاءات بيضاء، والحصيرة المفروشة فوق البلاط بلاستيك أبيض، بخطوط سوداء. في أية «قعدة حريم» على عتبة باب بيتنا، حين تشكو واحدة من نسوان الحيّ من روحية، تخبط أمي بظهر يدها على صدر الشاكية، وتصيح بقرف «نصيبة تاخدك، ما تجيش إلا على روحية»، وتقسم بالنعمة الشريفة، كأنها شقت عن صدر روحية، إن قلب روحية أبيض. - «كبرت وهتروح المدرسة يا سيد؟!» جلستْ على ركبتيها أمامي. - «يا سلام. زمن! زي ما يكون اتولدت إمبارح». لفّت مترها حول خصري، وهي تسأل أمي عن الشنطة، التي سأضع فيها الكتب والكراسات والأقلام والألوان. سكتت أمي التي كانت قد اشترت لي حذاء أسود جديداً من محل «باتا»، وكاوتش للرياضة، وكراستين، وقلمين رصاص. تكلمت روحية، وهي تدوّن مقاساتي في نوتة صغيرة، خضراء الغلاف، أخرجتها من فتحة صدرها، عن حقائب من البلاستيك المقوى، وأخرى من الجلد، وثالثة من «الإسكاي»، قالت توجد أنواع عدة منها في دكان عدلي. خجلتْ أمي، وكانت نظراتها مسلطة على فساتين ملونة، وعباءات سوداء معلقة في شماعات خشبية على حبل، بطول الحائط خلف ماكينة الخياطة، وكرسي عمل روحية، الذي يشبه كراسي قهوة عطاالله. «اليد قصيرة»، قالت أمي شاردة. مسحت روحية على رأسي، وقبلتني مرة أخرى، بلا مناسبة. «ولا يهمك يا بطل، هعملك بإيدي أحلى شنطة». وقد كان. * من رواية تصدر قريباً.