عندما أصعد كوبري إمبابة الضيق العتيق الذي وقف عليه محمود المليجي ليلقي فاتن حمامة من فوق أعمدته الحديد العالية في فيلم لم أعد أتذكر اسمه، لا أشم إلا رائحة أبي الآتية من عمق خمسة وأربعين عاماً، ولا أرى إلا النساء الجميلات اللائي لم أعد أراهن في أي شارع وإنما في أفلام الأبيض والأسود فقط، رافعات شعورهن بدبابيس ذهبية لامعة، مرتديات دائماً فساتين قصيرة من الشيفون أو الدانتيل المبطن بالساتان من اللون نفسه وبلا أكمام، أحذية لامعة بكعوب عالية وحقائب كبيرة مزينة بالترتر وخرج النجف وأحزمة تحيط بخصورهن النحيلة. أتذكر أن أبي كان يتلمظ بشفتيه السمينتين ثم يبتسم ابتسامته البلهاء الواسعة حتى تظهر نواجذه وتبرق عيناه وسرعان ما يرتفع حجر بنطاله قليلاً فيجلس مرتبكاً في أقرب مكان يصادفه. سمعت أمي مراراً وهي تهمس لخالتي الكبرى بمرارة: دلوقتى تشوفي الفضايح. كنت أنتظر هذا العرض بشغف كبير عندما تتم دعوتنا إلى أفراح الأهل أو الجيران أو إفطار رمضان في البلد أو نزهة جماعية إلى حديقة الحيوان أو أهرامات الجيزة أو مصيف رأس البر الذي ذهبنا إليه بالكاد في حياته مرتين. كنتُ أسلّي نفسي أيامها بتخمين مَن يا تُرى الجميلة من هؤلاء التي ستجعلني أستمتع هذه المرة بعرض أبي؟ وكنتُ أتساءل لماذا يحمرّ وجه أمي من الخجل والغيظ؟ وإذا كنتُ أنا في متناول يدها تقبض على يدي أو كتفي وهي تحتضنني وتنسى نفسها إلى حدّ إيلامي، وتظل قبضة أصابعها مرسومة على لحمي لأيام. فهمتُ عندما كبرتُ ماذا كان يحدث بالضبط لأبي، وتدربت منذ السادسة عشرة من عمري على أن أغض بصري وألاّ أبتسم أبداً في وجوه الجميلات المثيرات حتى لا أكون مادة لسخرية النساء، ولكن سرعان ما نبهتني نظرة أمي اللائمة المستهزئة - النظرة نفسها التي كانت ترمي بها أبي - إلى أنني كنتُ أنا نفسي أبي. كنتُ أصافح البنت الجميلة فلا أكف عن هزّ يدها بيدي كمعتوه حقيقي، أحياناً كانت البنت تتحول فجأة إلى رجل فتقبض على يدي بقوة تجبرها على التوقف، ولكن الكثيرات منهن كن يندهشن من هذا الأبله، ويتفرجن مثلهن مثل بقية الحضور على عرض يدي وذراعي بطولها وهي تهزّ يدها وتحرك ذراعها. يبدو أنني لم أحب أبداً أبي، ومن حسن حظي أنه مات وأنا في السابعة من عمري، في الحقيقة أنا لا أشعر بذنب ما إزاء مشاعري تلك، فلقد حاولتُ كثيراً أن أحبه ولكنني لم أستطع، كانت لأمي رائحة مدوخة هي خليط من كولونيا «خمس خمسات» ورائحة بسكويت عيد الفطر الذي كانت تعده لنا بنفسها وأذهب مع أخواتي البنات إلى الفرن الإفرنجى حاملات الصاجات التي رصته عليها وهناك يحط عليّ نعاس مسكر لن أحظى به بعد ذلك أبداً ونحن ننتظر دورنا في تسوية الكعك والبسكويت كنزهة سنوية، ظللت أنام واضعاً رأسي تحت إبطها لكي أشم تلك الرائحة حتى الحادية عشرة من عمري. وأنا في السادسة وقبل أن يموت أبي ببضعة أشهر، وبينما كنتُ أحاول إيجاد طريقة لحبّه سرقتُ زجاجة الكولونيا «الخمس خمسات»، ودخلت عليه وهو نائم ويصدر من فمه شخيراً عالياً، سكبتُ نصف الزجاجة تحت إبطه وانتظرت قليلاً ثم تمددت إلى جواره لأنام على ذراعه كما أنام دائماً على ذراع أمي، فشممت رائحة لا أستطيع وصفها، فلقد سممت رائحته رائحة الكولونيا التي طالما أحببتها، وبينما كنت أهرب منه ومن الرائحة وأنا أنهض من جواره انتفض فجأة وجُنّ جنونه وهو يكاد يكون متأكداً مما كنتُ أفكر فيه فألقاني أرضاً وهو يصرخ: أنا ما أعرفشي أنام في البيت ده أبداً؟ هرعت أمي من المطبخ يومها وحملتني من الأرض على رغم أنني لم أعد أُحمل، دفستُ رأسي في صدرها الوفير وظلتْ تمسح دموعي وأنا أطيل البكاء وأواصل شم رائحة ما تحت إبطها علّني أعرف ما هو سر هذه الزجاجة التي تصنع فرقاً فادحاً بينه وبينها. * من رواية تصدر قريباً تحمل العنوان ذاته