يحوم في سماء سورية اليوم شبح رعب يُهدّد بتقطيع أوصال هذا البلد، الذي عرف العمران والاجتماع منذ نحو عشرة آلاف سنة. وهذا الشبح بات ينذر بمحو علائم التحضّر والتمدّن الذي انطلق من دمشق وحلب قبل أربعة آلاف سنة ليغمر بلاد الشام كلها ويسمها بميسم الحضارة الآرامية الزاهية التي امتزجت فيها الثقافة الهيلينية بالعربية، ونشأت في ربوعها المسيحية الأولى ومن ثمّ الدولة الإسلامية الأولى. هذا البلد ذو الحضارة العريقة يعيش اليوم ظروفاً ليست سوى نتيجة لحكم نظام بائس جعل منه بلداً مُحطماً ومتصدعاً. في أعماق هذا التحوّل المرعب في التاريخ السوري القديم والمعاصر يغوص الكاتب صقر أبو فخر في كتابه «أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار الفارس)، مُحاولاً إيجاد تفسير لما يحصل اليوم في سورية. يحاول صقر أبو فخر في كتابه «أعيان الشام» أن يُجيب عن أسئلة تفرض نفسها في مثل هذه الظروف: «لماذا أُعيقت العلمانية في سورية بعد الاستقلال؟ لماذا ضمرت الديمقراطية في أرجائها مع أنّ النخب شبه الليبرالية كانت موجودة طوال أربعينات القرن العشرين وخمسيناته؟ لماذا فشل حكم القلّة (الأوليغاركيّ) في تأسيس دولة عصرية؟ لماذا فشلت الأحزاب العلمانية في اختراق المدن السورية التقليدية كدمشق وحلب وحمص وحماه التي أسلست قيادها لثالوث مالكي الأرض والتجار ورجال الدين؟ الكتاب يحاول إذاً الإجابة عن هذه الأسئلة على ضوء تاريخ سورية، التي مزّقها، وفق الكاتب، اتفاق سايكس بيكو عام 1916، وتمزّق معها كلّ من حاول توحيدها كالملك فيصل الأول والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي الاشتراكي. والنخب السورية، التي ورثت دولة متصدعة من الانتداب الفرنسي، حاولت أن تؤسس دولة متماسكة. لكنّ أحفاد هذه النخب المنتفضين بالسلاح (2011)، وفق تعبير الكاتب أيضاً، قد يُحولون سورية إلى دولة مُحطمة. ويفسر الكاتب أن ظهور هذا التشدد الديني في الأرياف المهمشة وأحزمة البؤس حول المدن التجارية الباذخة لم يكن سوى رد فعل تلقائي ضد السلوك الاستفزازي للأثرياء الجدد. يحتوي هذا الكتاب التاريخي- السياسي على ثلاثة فصول. يتضمن الفصل الأول «أعيان الشام وإعاقة العلمانية» محاور عدة مثل: المستبد والطاغية، المثال السوري، استعصاء الحداثة. والفصل الثاني هو «مطارحات في الشأن السوري» وفيه: «الخوف على سورية»، «موقع الإثنيات في سورية المقبلة»، «سورية الجديدة أم سورية العثمانية؟»، «إما الإصلاح أو الإنهاك». أما الفصل الثالث «الإسلاميون والديمقراطية» ففيه: «الربيع والشتاء الإسلامي»، «لا يوجد أملس بين القنافذ»، «المفتاح السوري: القومية العربية والأقليات في عصر التغيير». يكتب صقر أبو فخر بلغة تحليلية سلسة، واضحة، موثقة لا تقودنا إلى قلب المشهد السوري الحالي، وإنما إلى ما وراء المشهد وحيثياته.