مشاري الذايدي * الشرق الأوسط اللندنية من المثير للاستغراب أن يشكو أمين حزب الله في لبنان، السيد حسن نصر الله، من النخب اللبنانية والعربية، ومن معارضتها لتوجه الحزب المؤيد بنصر من الله. يعتقد نصر الله، في خطبه العاشورائية الأخيرة، أن هذه النخب تعمل لنفسها ومصالحها وتحول بين الجماهير المسلمة والانسياق مع مشاعرها الطبيعية المؤمنة النضالية، وأنه كلما هدأت المشاعر المعارضة للحزب أو جماعات المقاومة، عادت هذه النخب وأشعلتها من جديد، لمصالحها الخاصة. ربما لا نختلف كثيرا مع هذا الوصف لعمل النخب، اللبنانية أو العربية، ولكن نستغرب لماذا يخرج السيد نفسه وقيادة حزبه، ومثقفي جماعته ومفكريها، أمثال الحاج محمد رعد أو نعيم قاسم، وهما بقية حزب الدعوة القديم الذائب في الحزب الإلهي، وحتى نصر الله نفسه، بوصفه مثقفا مسيسا... لماذا يخرجون أنفسهم من مشهد النخبة العربية؟ كأن النخب العربية شيء عقلاني عصيّ على الاختراق الأصولي. لنعد إلى الحزب الإلهي، فحزب الله له وجهان، وجه جماهيري شعبوي ظاهر، ووجه خاص نخبوي، يقرر فيه قلة قليلة من مفكري ومخططي الحزب مصيره وكيفية توجيه مشاعر الجمهور وكيفية التحكم بوتيرة التصعيد والتهدئة. ناهيك عن التحالفات السياسية المختلفة والتفاهمات المتعددة، والأدبيات الفكرية والحركية والسياسية، كل هذه الأمور هي من صنع «نخب» أو نخبة تدير الحزب مرتبطة هي بدورها بمسار إقليمي استراتيجي عريض يتجاوز البقعة اللبنانية إلى قضية أكبر تتعلق ب«الأمة» والمصير والدور والمواجهات الحضارية الكبرى. هذا شيء، والأمر الآخر، هو أن النخب العربية التي تكال لها التهم، وهنا نقصد النخب الفكرية والاقتصادية، لا السياسية، هي أصلا منقسمة على نفسها، ومتنوعة، ليست كلا متجوهرا بلا مسامات، وهو وصف نابع من طبيعة ظروف تكون هذه النخب، فهي نتاج تحولات ومنعطفات اجتماعية كبرى، إضافة إلى دور الطموح الفردي والأحلام الخاصة بالفرد، إذن فمن الشاق الحديث عن كتلة مصمتة من النخب العربية، ثم إن هذه النخب العربية التي تمسك بالإعلام والأدب والإبداع وصياغة الوعي العام، وتحديد الآفاق التي ترتادها المجتمعات، وتصنيف الأحلام الشريفة من الوضيعة بالنسبة إلى الوعي العام! هذه النخبة بهذه المواصفات، أخشى أن السيد حسن، وأمثاله من مشايخ الأصولية الذين اعتادوا الهجوم على النخب العربية، قد ظلموها باعتقادهم أنها في موقف مناقض لهم ومقاوم للمقاومة! الحال غير هذا تماما، نحن نرى أن هناك انشطارا عميقا في مواقف هذه النخب، وغالبها ينحاز لأحزاب وجماعات مثل حسن نصر الله ومهدي عاكف وخالد مشعل، بل إن بعضهم ينحاز بكل سفور وعري إلى أسامة بن لادن والزرقاوي وأيمن الظواهري، وكثير من يتذكر حديث الدكتور والمفكر «النخبوي» الكويتي عبد الله النفيسي في الإشادة بهجمات 11 سبتمبر (أيلول) والتمني على القاعدة أن تعيد الكرة بشكل أذكى وأشرس! وسط قهقهات وابتسامات ثلة من النخب العربية... نتحدث هنا عن «أستاذ» ومفكر سياسي. في يوليو (تموز) 2008 قام أحد رموز هذه النخبة العربية، وهو الصحافي والسياسي محمد حسنين هيكل، في نادي القضاة المصريين، ودبج المدائح في حسن نصر الله وحزبه، ورسم خارطة الأحلام والآمال على جدار المبكى الإلهي الأصفر، ثم قال بالنص إن حسن نصر الله هو «الأمل العربي المشرق». وتهافت كثير من المثقفين والنخب، لا نتحدث عن الأنصار من الإسلاميين الإخوانيين وغيرهم، أو من الأحزاب الشيعية الأصولية، فهذا شيء متوقع، بل نتحدث عن نخب عربية يغلب عليها ميسم العلمانية أو المدنية، ومع ذلك فهي من أكبر أنصار حزب الله وحماس وربما القاعدة وطالبان لدى بعض رومانسيي هذه النخب، ولا عجب فمن قبلُ كتب أدونيس، الحداثي، قصيدة مديح بثورة الخميني، ولم يكن أدونيس وحده بل كان معه عدد من نخب العرب بل والعالم أمثال الفرنسي ميشيل فوكو، باعتبار أن ثورة الخميني كانت انتفاضة شعبية عارمة ضد قوى الاستعمار الحديث وأذنابه، ولكن لم يحاول أحد البتة أن يتوقف كثيرا عند الطابع الأصولي الخطير لهذه الحركة، وها نحن نشهد اليوم، ثورة مثقفي الثورة الخمينية، تتعرض للتشقق والتشرذم والثورة على الثورة على يد مثقفين آخرين خرجوا من عباءة الخميني الكبيرة التي بسطت ظلها العريض على إيران كل هذه العقود. ليس صحيحا أن النخب العربية تقف ضد هذه الأحزاب والحركات الأصولية، التي يحلو لقادتها أن يصفوها بأوصاف تجميلية بل وحتى مدنية! على العكس، غالب النخب العربية والإسلامية كانت إما منحازة مع هذه الأحزاب والقوى الأصولية أو مهادنة لها أو «ممنطقة» لأعمالها وحركاتها، نحن هنا لا نتحدث عن سجالات الصراع بين مثقفي السلطة، كما يقال، مع مخالفيهم من جماعات المعارضة، لا، بل نتحدث عن حالة عامة من الخضوع النفسي الداخلي والخطاب الملتوي في الإشادة بهذه القوى الأصولية بحجة قدسية المقاومة أو أن هذه الجماعات هي رصيد قوة وشوكة للأمة والمجتمع كما يعتقد كثير من مثقفينا، حتى من بعض مثقفي السلطة، بل بالذات منهم! ووصل الحال ببعض هؤلاء النخب إلى الترحيب بالتخلف والرجعية إذا كان ذلك يعني البقاء في مربع المقاومة، في حالة استلاب نفسي كبير، كما يشير إلى ذلك جورج طرابيشي في كتابه المؤلم (المرض بالغرب) ومن الأمثلة المعبرة التي جلبها طرابيشي في كتابه تلك الصرخة المدوية التي أطلقها المفكر طارق البشري، الذي اكتملت دورته الفكرية الكاملة باتجاه القمر الأصولي، فقال في ندوة ببيروت سنة 1980: «إذا كان التطور يرفضني فلست من أنصار التطور، وإذا كان التقدم ينفيني ويسحقني كجماعة، فإنني إذن لمن الراجعين»! هناك شكوى من حالة انحسار في الوهج التنويري لدى النخبة العربية، والقيام بهذه المهمة كما كان يقوم بها محمد عبده أو لطفي السيد أو طه حسين أو الثعالبي وابن عاشور وخير الدين والأفغاني، وأصبح أمثال الدكتور جابر عصفور، وريث التنوير العربي، قلة في عداد النخب العربية، لحساب بقايا القوميين والثورجيين، وأنصاف الإسلاميين ممن يقدمون أنفسهم بصيغ مدنية تمويهية، وحتى داخل هذه الأحزاب وأقوى صعدت الأصوات الصِّدامية على حساب الأصوات الإصلاحية التدريجية (هل صعود صقور الإخوان في مصر في انتخابات مكتب الإرشاد والمرشد على حساب أمثال أبو الفتوح، له علاقة بما نقول؟). النخب العربية محطمة ومنتجة للأزمة وليست مخلصة منها، لم يبقَ إلا قليل فيها ما زال يحمل مشعل هم التنوير والإصلاح، ولا يهم الكلام عن موقعه السياسي، مواليا أو معارضا لسلطة بلاده، المهم في نظري هو في استمساكه بقضية التنوير والإصلاح الفكري والتربوي والاجتماعي، فذلك هو المفتاح الأكبر لمدينة النور العربية، أما المزايدة على الجماهير بالصراخ وترديد هلوسات شعبوية وإرضائية للذات المريضة والجريحة، فهو دليل على مدى التردي الذي وصل إلى أعصاب العقل العربي. لذلك كان المتحدثون في مؤتمر المفكر نصر حامد أبو زيد الصحافي الذي عقد في دار نقابة الصحافيين في مصر للتنديد بمنع أصوليي الكويت أبو زيد من دخولها بعد تلقيه دعوة لإلقاء محاضرة هناك، كانوا على حق وهم يتحدثون، بما فيهم الناقد الكبير جابر عصفور، عن هيمنة المزاج الأصولي المتطرف على المشهد العربي كله لدرجة أنهم بالكاد حصلوا على هذه القاعة لعقد هذا المؤتمر! الطبيب نفسه يحتاج إلى علاج! هذا إذا وافقنا أصلا على «محورية» دور المثقف العربي، وهل حاله اليوم كحاله بالأمس، اليوم الذي انفجرت فيه الأرض والسماء بكل خبر ومعلومة...؟