بينما يكتب الشعب السوري تاريخاً جديداً، تعاني آثاره التاريخية من محو قد يكون متعمداً. خسائر الثورة تعدت فقدان أكثر من 100 ألف شهيد، وتخريب منابع الاقتصاد، ووصلت إلى الآثار التاريخية والحضارية التي تعد شاهدة على حضارات متعاقبة رومانية وبيزنطية وإغريقية وغيرها. مدينة حلب كان لها النصيب الأكبر من هذا الدمار الذي طاول أسواق المدينة التي تعتبر عصبها الاقتصادي، واستبدلت الحركة اليومية طوال ساعات النهار وحتى الليل بمناظر الحرائق والسحب السوداء، وتعتبر أسواق حلب من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي لما تمتاز به من طابع عمراني جميل إذ تتوافر نوافذ النور والهواء فتؤمّن جواً معتدلاً يحمي من حر الصيف ويقي من أمطار الشتاء وبرده. تعود أصول أسواق حلب إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، إلى عهد «ياريم ليم» ملك حلب، حيث أقيمت المحال التجارية على طرفي الشارع المستقيم الممتد بين باب أنطاكية ومعبد القلعة، حيث كان يأتي الحجاج آنذاك إلى حلب لزيارة مقام «حدد». ويرتقي بناء هذه الأسواق الموجودة اليوم إلى نور الدين زنكي، ثم توسعت في العهد الأيوبي، ثم في العهدين المملوكي والعثماني. وكدليل على أهمية حلب وأسواقها التجارية قبل فتح قناة السويس قول أحد الرحالة: «إن ما كان يباع في أسواق القاهرة خلال شهر كامل يباع في أسواق حلب في يوم واحد». وقد امتدت الفعاليات التجارية والصناعية المهنية واليدوية في أسواق «المدينة» لتغطي 16 هكتاراً من مساحة حلب. أما طول السوق بتفرعاته فيبلغ أكثر من ثمانية كيلومترات، ويزيد عدد محال الأسواق القديمة عن 1550 حانوتاً تؤلف 39 سوقاً تعد من أطول الأسواق المسقوفة في العالم، فطول هذه الأسواق على الجانبين يبلغ 15 كيلومتراً ومساحتها 16 هكتاراً. وقد كانت سقوف الأسواق من الحصر والقصب وعندما احترقت عام 1868 أمر الوالي ببنائها مع نوافذ سقفية، وسمّيت غالبيتها نسبة إلى المنتج الذي تبيعه، كالحبال والعباءات والعطارة، في حين اكتسب بعضها اسم مسقط زوارها فعرفت باسم سوق اسطنبول أو عمان أو الشام وغيرها، وعدد كبير من الخانات والقيساريات. محمد واحد من 30 تاجراً فقدوا محالهم في سوق القطن «الذي احترق بالكامل على ما علم من جيران له في اسواق اخرى»، مع عدم امكانية وصول سيارات الإطفاء بعد اندلاع الحرائق. ويؤكد عبدالله ر. ان النيران «لم تصل إلى السوق التي احترقت قبل حوالى 150 عاماً، لكننا لا نستطيع الوصول إلى محلنا للتأكد من حالته بسبب الاشتباكات». وباءت بالفشل محاولته الدخول عبر مدخل تسيطر عليه القوات النظامية وآخر خاضع للمقاتلين المعارضين. وتحظى المحال بقيمة معنوية رمزية تفوق احياناً قيمتها المادية، لا سيما ان «لكبار التجار والصناعيين الحلبيين مكاتب رمزية في تلك الاسواق باعتبار ان معاملهم ومستودعاتهم صارت في مناطق بعيدة» وفق السيد، لكن يبقى الضرر المعنوي بالغاً. ويضيف: «على رغم ان بعض هذه المحال لا تزيد مساحته عن عشرة أمتار مربعة، فقد يصل سعره الى مئات الآلاف من الدولارات الأميركية، وبالنسبة الى صغار التجار فتعد مصدر دخلهم (...) أما سكان المدينة فتربطهم بها ذكريات وشجون لا يمكن تعويضها. وقال احمد ج. صاحب سبعة محال ورثها عن جده في حلب ان اكثر ما يقلقه ليس قيمة البضائع الموجودة في المحل، بل احتمال «احتراق ذكريات طفولتي، (وهي) لن تعوض بثمن». الجامع الأموي الجامع الذي بني في العصر الأموي وأعاد ترميمه نور الدين زنكي الذي حكم حلب في القرن السادس الهجري أكبر وأعرق جامع في المدينة. ويطلق عليه أيضاً اسم جامع زكريا، بسبب وجود مقام نبي الله زكريا عليه السلام - ومكتبته الأثرية التاريخية. أعلن الجيش الحر تحريره قبل نحو شهر، مع بدء معركة تحرير قلعة حلب التي يتحصن فيها جنود النظام، استكمالاً للسيطرة على حلب القديمة. تصدّت لهم قوات النظام، فاشتعلت النار في قسم كبير من المسجد العريق. وقال الناطق الرسمي باسم الثورة السورية في حلب محمد س. إن «جيش النظام حرق المسجد الأموي الكبير في حلب بعد حرق السوق الأثري». وأكد صفوان عكاش، عضو هيئة التنسيق الوطنية المعارضة، في تصريح من دمشق، أن ما حدث في الجامع الأموي الكبير من اشتباكات وقصف، والدمار الذي لحق بالجامع، عمل «لا يمت إلى الإنسانية بصلة، ويرتقي إلى مستوى الجريمة التي يجب أن يحاسب عليها كل من أقدم على هذا العمل المدان»، مشيراً إلى أن دور العبادة يجب أن تبقى بعيدة من مسارح العمليات العسكرية، ويجب عدم التنافس للسيطرة عليها. قلق دولي في السياق ذاته أعربت منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونسكو» عن قلقها الشديد على مصير المعالم التاريخية في سورية. لذلك بدأت تدق ناقوس الخطر، وقالت ايرينا بوكوفا المدير العام للمنظمة: «تثير قلقنا بصورة خاصة الأنباء الواردة عن المعارك العنيفة التي تجري في مدينة حلب، المدون قسمها القديم ضمن قائمة التراث العالمي، ووجهت مديرة اليونسكو إلى الأطراف المتحاربة في سورية نداء طالبتهم فيه بمراعاة الالتزامات الدولية في مجال الثقافة والمحافظة على التراث الحضاري للبلاد». ولفتت «بوكوفا» الى «أن سورية هي إحدى الدول الأعضاء في اتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح، وهي ملزمة بالتالي ببذل قصارى جهدها لصون هذا التراث من ويلات الحرب». وفي مؤتمر عقدته المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو» في القاهرة، قال عبدالعزيز سالم، ممثل المنظمة: «نسعى للعمل على صوغ برنامج عملي للتدخل السريع لإنقاذ التراث المعرّض للأخطار في حلب، سواء بالترميم والصيانة أو بالتوثيق والجرد للمعالم الأثرية التي تعرضت للتدمير». وأشار إلى أن: «مثل هذه اللقاءات تعمل على تجنيد الرأي العام العربي والإسلامي والدولي للتدخل السريع لإيقاف الاعتداءات على معالم التراث الحضاري والإسلامي والمساجد الأثرية فيه».