هناك شيء غامض جعل الكتاب والفنانين الأوروبيين، منذ عصر النهضة، يهتمون اهتماماً خاصاً بحياة القائد الروماني يوليوس قيصر فيخصّونه بالمسرحيات واللوحات والنصوص الشعرية وما شابه. واللافت ان الفصل الخاص بموت يوليوس قيصر هو الذي كانت له الحظوة أكثر من أي فصل آخر من فصول حياته. هناك، بالتأكيد، في مقتل قيصر هذا على يد المتآمرين الذين كان معظمهم من أخلص أصدقائه وأعوانه وأقاربه، شيء شديد الخصوصية والجاذبية، مكّن المبدعين من التحلق حول أعمال درامية كانت لها دلالتها الخاصة بها. ولكنها كانت أيضاً دلالة يمكن أن تمتد لتشمل أكثر من عصر ومن مكان. هكذا، اذاً، عرف الفن والأدب كيف يستخلصان ما هو عامّ مما هو خاص. وكانت ليوليوس قيصر مكانة في تاريخهما تضاهي مكانة أوديب وغيره من الشخصيات التي طالما ألهمت المبدعين. وإذا كان شكسبير الذي وصل الى حكاية يوليوس قيصر، متأخراً نسبياً، قد قدّم في مسرحيته الرائعة التي تحمل اسم ذلك القائد، واحداً من أفضل الأعمال وأعمقها، في مجال متابعة مقتل يوليوس قيصر، فإننا نعرف ان بداية الاهتمام الفني بهذا الأخير كانت فرنسية، لا إنكليزية. إذ باكراً، ومنذ بدايات القرن السادس عشر، قبل عقود من كتابة شكسبير مسرحيته، كان هناك نحو ست أو سبع مسرحيات وأعمال مشابهة تتناول الموضوع نفسه. من أصحابها مارك - انطوان موريه، وروبير غارزييه. ومن هنا، حتى حين تنطح ويليام شكسبير للإدلاء بدلوه في هذا الموضوع، اعتبر فرنسيون كثر ان شاعر الانكليز الكبير انما يسطو على تقاليد فرنسية ليست له. وهكذا، كان لا بد للفرنسيين من بعد الزمن الشكسبيري، أن يستعيدوا «بطلهم» اللاتيني، غير ان كل محاولاتهم في ذلك المجال لم تبدُ مثمرة، امام الروعة الاستثنائية لذلك العمل الشكسبيري الكبير عن القيصر والذي طويلاً ما بهر القراء ومتفرجي المسرح جاعلاً اياهم يستغنون بمسرحية شكسبير عن كل ما كتبه آخرون حول الموضوع والشخصية طوال ما يقرب من قرنين، أي حتى جاء فولتير، فيلسوف التنوير وكاتب اللغة الفرنسية الكبير في عصور الفكر الثوري والذي كتب، هو الآخر، مسرحية عن يوليوس قيصر عنوانها «موت قيصر». كتب فرانسوا ماري آروي (فولتير) مسرحيته هذه عام 1735، لكنها لم تُمثّل، للمرة الأولى، في فرنسا إلا بعد ذلك بثمانية أعوام، أي عام 1743. وكان من الواضح ان فولتير، عند كتابته هذه المسرحية انما كان يتطلع صوب شكسبير أكثر مما يتطلع صوب التاريخ الروماني نفسه. في معنى ان الصورة التي رسمها للقائد الروماني كانت تحاكي صورة شكسبير خطوة خطوة، بدلاً من أن تحاكي التاريخ القديم لروما. ومن هنا، فإن أول ما يمكن ملاحظته على رسم فولتير للشخصية هو خلوّها من الروح: تكاد تبدو شخصية أدبية خالية من الملامح البشرية. ومع هذا كان ثمة على الدوام معجبون رأوا ان فولتير تفوّق على شكسبير، خصوصاً في مجال استخلاص الدروس السياسية مما حدث للقائد الروماني. فولتير كان ايديولوجياً... وكانت كتابته ارادوية الى حد كبير، أي انه كان يكتب، مثلاً، النص الأدبي أو القطعة الفنية في استهداف سياسي ايديولوجي فكري واضح، غير عابئ حتى بما اذا كانت الشخصية المرسومة ستفتقر الى اللحم والدم في نهاية الأمر. مثل كل فيلسوف مفكر، من النوع المثالي... كانت الفكرة لدى فولتير تسبق الروح. وهذا في الحقيقة ما يجعل مسرحيته، في نهاية الأمر، أقل شأناً من رائعة شكسبير. مهما يكن من أمر، فإن فولتير كتب مسرحيته وحاول أن يحدث فيها بعض التجديدات الحدثية. وهي أصلاً، عمل تمحور، كما يقتضي الأمر، من حول الشخصية المحورية، يوليوس قيصر، ذلك البطل الذي يُفهمنا فولتير منذ الفصل الأول انه عرف كيف يفرض نفسه وحضوره، حتى على أولئك الذين عارضوه أولاً وأخيراً. بالنسبة الى مسرحية فولتير كانت شخصية يوليوس قيصر، مؤسس الامبراطورية، شخصية كارزمية، قوية. ومن هنا اذا كان ثمة من نهض للتآمر عليه والتخلص منه، فإن هذا لم يكن سهلاً على الاطلاق. ما من عدو كان يمكنه ان يقضي على يوليوس قيصر. فقط المقربون منه كانوا قادرين على ذلك، لأن الرجل إذ كان فطناً، محبوباً، متنبهاً، كان يحسّ بأن لديه ما يحميه حوله ومن داخل عرينه، لذلك فليتنبه الى الخارج، الى من يتربصون به من هناك... من حيث يتوقع. كل هذا نراه في الفصل الأول، غير ان الغريب في الأمر هو ان قلم فولتير لم يتمكن أبداً من أن يصور لنا، حقاً، أي جانب من جوانب عظمة يوليوس قيصر، ومن بهائه الملكي... انه لديه يبدو أشبه بزعيم حذر يقظ، يعرف ان ثمة من يريد الايقاع به فيأخذ احتياطاته. بل ان هذه الصورة تفقد المسرحية منذ البداية أي قوة درامية وأي بعد تشكيلي، ما يتناقض تماماً مع صورة يوليوس قيصر التي نراها لدى شكسبير، حيث يلوح البعد والعمق الدراميان منذ اللحظات الأولى في تناغم تام مع العنصر التشكيلي الجمالي للعمل ككل. ومع هذا نعرف ان فولتير انما اتخذ من يوليوس قيصر الشكسبيري نموذجه المحتذى، بعدما كان هو نفسه قد ترجم مسرحية شكسبير الى شعر فرنسي. ان بطل المسرحية التي كتبها فولتير ليس أكثر من رجل عادي يتملكه طموح غريب. وهو، في الوقت نفسه الذي يحلم فيه باستكمال بناء الامبراطورية، يقف لحظات طويلة حنوناً إزاء بروتوس، الشاب الذي يعتقد يوليوس قيصر انه هو ابنه غير الشرعي الذي أنجبته له سرفيلا، شقيقة كوتون، إثر زواج عرفي سري عقد بينهما. لكن الأم ربّت الولد انطلاقاً من مبادئ جمهورية تتناقض تماماً مع كينونة الأب. وقيصر، الذي يكنّ لابنه بروتوس حباً عميقاً وخفياً، يحاول ذات لحظة ان يثير تعاطف بروتوس معه إذ يسرّ اليه بسرّ ولادته. بيد ان بروتوس يصمّ أذنيه، لأنه هو الآخر - وكما رسمه فولتير - شخص عادي لا عمق في شخصيته ولا أبعاد، ويقول لقيصر: «إذاً فاقتلني للتو... أو دعك من الحكم!». وهكذا - وكما تقتضي الحقيقة التاريخية على أي حال - تسير المأساة نحو مآلها المعروف والتراجيدي. إذ ها هم المتآمرون، وعلى رأسهم بروتوس ينتهي الأمر بهم الى طعن يوليوس قيصر بالخناجر حتى يردوه قتيلاً خلال جلسة مجلس الشيوخ. بيد ان الشعب لا يتجاوب مع المتآمرين، بل يتجاوب مع خطبة مارك أنطونيوس العنيفة والحذقة... فالتاً على المتآمرين انتقاماً للقيصر. ان ما يمكن قوله هنا هو ان المشهدين الأخيرين في هذه المسرحية التي يبدو ان فولتير كتبها على عجل، انما هما المشهدان الأخيران نفسهما في المسرحية الشكسبيرية... حيث ان كاتب اللغة الفرنسية الكبير لم يجد أي داع لأي تجديد أو تحوير على ما كان صاغه كاتب اللغة الانكليزية الأكبر. وعلى هذا النحو رُميت مسرحية فولتير في وهاد النسيان على مر الزمن، فيما عاشت مسرحية شكسبير ولا تزال، بشخصياتها وأحداثها ولغتها، وبقوتها الدرامية الاستثنائية. وفي الأحوال كلها، إذا كنا نعرف ان فولتير (1694 - 1778) كان فيلسوفاً وكاتباً ومفكراً، فإننا نعرف أيضاً ان ليس ثمة من سبيل لمقارنته فنياً، بكاتب من طينة ويليام شكسبير. بل ان مسرحيات فولتير، في شكل عام - وهو، للمناسبة، كتب الكثير من المسرحيات -، لا يمكنها، مجموعة، أن تجعله يعتبر واحداً من كبار الكتاب الحقيقيين في المسرح الفرنسي، وهو أمر احتاج الفرنسيون الى انتظار زمن طويل قبل ان يكتشفوه بعدما عاشوا عقوداً يعتبرون خلالها فولتير واحداً من أعمدة الكتابة المسرحية في العالم. [email protected]