يعيد المسرحي التونسي رجاء فرحات تقديم عمله «بورقيبة السجن الأخير» في نسخة جديدة. لاقى العمل اهتماماً جماهيرياً ونقدياً منذ انطلاق عروضه، ولعلّ في مراهنة فرحات ونجاحه أكثر من إشارة إلى أنّ قراءة التاريخ وتقديمه بأسلوب فنّي يجذبان المشاهدين. «بورقيبة... السجن الأخير» كما يقدمها فرحات هي سيرة شكسبيرية فريدة. رحلة عبر ثنايا الذاكرة والكفاح الطويل من أجل الاستقلال والحرية. «المجاهد الأكبر» الذي أصبح شيخاً سجيناً طوال 13 سنة بقرار من الطاغية الجاهل. يستحضر في سجنه رفاقه خلال مراحل الكفاح. يستذكر تقلبات الحزب ومختلف الخيارات المذهبية والسياسية على الصعُد الوطني والقومي والعالمي. مشاهد من القرن العشرين تونسياً وعربياً وعالمياً والشخصيات الكبرى التي أثّرت في مسارات السياسة الدولية. يتذكّر في سجنه أحداثاً جوهرية أثّرت في تاريخ البشرية خلال القرن الماضي من ثورات وحروب عالمية، إلى ولادة نظام عالمي جديد، مروراً بالهزّات هنا وهناك. يستعرض رجاء فرحات، الذي تلبّس شخصيّة الشيخ السجين، الانتصارات النيّرة والهزائم المريرة والنكسات العاصفة، من حرب بنزرت إلى الاشتراكية الدستورية وعشرية الليبرالية وإفلاس الدولة وانفجارات سنوات 1978 و1980 و1984، في تداعيات صريحة واضحة المعالم من دون ديبلوماسية ممزوجة بروح الدعابة والمشاكسة والقدرة على امتلاك قلوب الناس بلغة سلسة وفصيحة تتعانق فيها «الصور والأمثال والآيات والقصائد. هي لغة أبدع فيها الزعيم منذ شبابه، حين جال البلاد من شمالها إلى جنوبها، يجالس أبسط الناس من القبائل والعروش والمدن والقرى تحت أشجار الزيتون والنخيل ليشرح لهم قيمة تونس وأسباب عزتها وما يتهددها من أخطار. تنتهي السيرة الثرية والمؤثرة لبورقيبة في شيخوخة لا قدرة لها على تجاوز المرض والمؤامرات التي تحاك ليلاً نهاراً طمعاً بكرسي الشيخ المريض، ويستولي «الحاجب الغادر على القصر» وينقل بورقيبة إلى مسقط رأسه مدينة المنستير الساحلية ويشهد «ضياع مبدأ نظافة كفّ الحاكم المعلم وانتشار الفساد، كأن البلاد تراجعت إلى عصر أفسد الملوك في تاريخها». في ربيع العام 2000 يترجّل الفارس عن جواده ويبكيه التونسيون، بمن فيهم الذين اختلفوا معه، ويدفن مؤسس الدولة الحديثة ومحرّر المرأة، كما كتب على باب مقبرته. يقدم فرحات سيرة «الزعيم» من خلال مواقف ساخرة أحياناً ومحرجة أحياناً أخرى، وفي الحالتين لم يخلُ الخطاب من صدق وصراحة. والواضح أنّ فرحات عمل بشكل كبير وجاد على أدق التفاصيل في حياة بورقيبة، ولعلّ ما يحسب له أنّه تمثّل شخصية الزعيم بكل حركاتها وسكناتها، حتى أنّ كثيراً ممن عاشوا المرحلة الماضية وعرفوا الزعيم عن قرب يؤكدون أنّهم أثناء متابعة المسرحية كانوا في حضرة بورقيبة». نجح فرحات صاحب التجربة المسرحية الطويلة من اختزال سيرة بورقيبة المثيرة للجدل سياسياً واجتماعياً ودينياً. لم يكن «المجاهد الأكبر» يدري أن أحد القادمين من القاع سيخرجه من الباب الخلفيّ ويدفنه في بيت مغلق ثلاث عشرة سنة قبل أن يتحوّل جسداً بلا روح إلى قبره الذي أعدّه قبل سنين طويلة في مدينته التي طالما أحبّها، وقرب البحر تماماً. عمل مسرحيّ جسّد فيه رجاء فرحات شخصية بورقيبة المثيرة للجدل حيّاً وميتاً، ولا نستغرب أن يعود الممثل والمخرج بنسخة منقّحة، فيما تشهد تونس صراعاً حامياً بين المتمسكين بمدنية الدولة بما فيها من حريات لعل أهمها حرية المرأة، وبين من يسعون إلى تطبيق الشريعة على طريقتهم الخاصة وتقسيم الشعب بين مسلمين وكفّار.