في السادس من شهر أبريل الجاري، احتفل التونسيون بالذكرى الثالثة لوفاة الزعيم الحبيب بورقيبة. فكانت هذه مناسبة استعاد فيها مؤسس الدولة التونسية الحديثة مكانته لدى شعبه، بعد أن حرص زين العابدين بن علي على طمس تاريخه، ومحاولة إلغائه من الذاكرة الجماعية للشعب. فعندما أزاحه من الحكم في فجر 7 نوفمبر 1987، تدخل أكثر من رئيس دولة لمطالبة بن علي بضرورة حماية حياته، ومعاملته بما يليق بشخصية بقيت لفترة طويلة تتمتع باحترام العالم. ومن هؤلاء الرؤساء فرانسوا ميتران رئيس فرنسا السابق، وكذلك الملك الحسن الثاني، إذ كلاهما انزعج كثيراً عندما بلغته النهاية الحزينة لبورقيبة. لقد بقيت تونس البلد العربي الوحيد في دائرة الأنظمة الجمهورية الذي لم يحكمه العسكر، إلى أن جاء الجنرال بن علي فقضى على هذا الاستثناء، رغم أنه لم يعتمد في انقلابه على الجيش، وإنما استند في ذلك على الأجهزة الأمنية. رغم تعهداته باحترام صاحب الفضل عليه، إلا أن بن علي لجأ إلى عزل الرئيس بورقيبة، وضيق من قائمة المسموح لهم بزيارته، وعندما وافاه الأجل المحتوم، بلغت مخاوف الرجل من أن تتحول جنازة بورقيبة إلى تمرد جماعي ضده، فمنع كثيراً من المواطنين من الذهاب إلى مدينة المنستير حيث دفن. بل ذهب إلى أكثر من ذلك، عندما أعطى تعليماته بمنع التليفزيون المحلي من نقل وقائع الجنازة الرسمية، وذلك رغم مشاركة عدد مهم من رؤساء الدول وشخصيات عالمية. وهكذا تأكد أن بن علي كان يخاف من بورقيبة حياً وميتاً، ولهذا عمل حتى على تجريده من المكاسب التي حققها لتونس، ومن بينها حرية المرأة. اليوم اختلف الوضع نسبياً. لأنه بعد هروب بن علي، وجد بورقيبة نفسه محل نزاع بين طرفين. طرف في الحكم، ممثل في حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، التي اضطهدها بورقيبة، التي تختلف معه في جزء واسع من مشروعه المجتمعي، ورؤيته لهوية تونس وماضيها. فالسيد راشد الغنوشي هو السياسي الوحيد الذي عندما يتحدث عن بورقيبة يصفه بالمخلوع، وهي العبارة التي تنطبق لدى بقية التونسيين على بن علي. أكثر من ذلك، السيد راشد الغنوشي مُصِر إلى يوم الناس هذا على عدم الترحم على بورقيبة باعتباره كافراً لا يجوز الترحم عليه. وهو أمر يستنكره كثير من التونسيين. ولعل هذا الموقف قد ساهم في تراجع شعبيته لدى استطلاعات الرأي الأخيرة. ومما زاد الطين بلة، مرور ذكرى استقلال تونس في أجواء خلت من الاحتفالات الرسمية، بما في ذلك عدم رفع الأعلام في الشوارع والمدن وذلك لأول مرة، وهو ما أثار ردود فعل واسعة سلبية لدى المواطنين والنخب السياسية، حيث تم اتهام حركة النهضة باعتبارها الحزب الحاكم حالياً ضمن الترويكا، حتى لا يشكل ذلك مناسبة لتمجيد الزعيم بورقيبة الذي كان يقود الحركة الوطنية، الذي يعتبر مؤسس الدولة الوطنية في تونس. في المقابل، تزداد نجومية السيد الباجي قايد السبسي، الذي استعاد مكانته خاصة بعد توليه منصب الوزير الأول وتشكيل الحكومة الثانية بعد الثورة. وفي أول خطاب توجه به إلى الشعب، أحس التونسيون وكأنهم يستمعون ويشاهدون نسخة طبق الأصل لبورقيبة، سواء من حيث طريقة حديثه، أو أسلوبه في الخطابة وحركات اليدين وقسمات الوجه ونظرات العينين. كذلك الشأن في ثقافته السياسية ورؤيته لإدارة شؤون الدولة. لقد أعاد الباجي إحياء بورقيبة، وهو ما جعل كثيراً من الدستوريين القدامى والجدد، يلتفون حول شخصيته الكارزمائية، رغم اختلافهم معه في عديد من المسائل والمواقف، خاصة بعد تأسيسه حزب «نداء تونس». ولم يقف تأثير الباجي وجاذبيته عند حدود ما يطلق عليهم بالبورقيبيين، وإنما اتسعت الرقعة لتشمل عدداً كبيراً من التونسيين، وخاصة التونسيات. المؤكد أن مؤسس الدولة التونسية لا يزال حياً في ذاكرة التونسيين، وخلافاً لما كان يراهن عليه سلفه، فقد خرج بن علي من التاريخ والجغرافيا وعاد بورقيبة إلى قلوب كثيرين. لكن الإشكال الذي يحتاج إلى معالجة هادئة، فهو يتمثل في ضرورة التعامل بموضوعية مع هذا الرجل ومع تاريخه. يجب الامتناع عن التطرف في اتجاه اليمين أو اليسار، أي تجنب تقديس بورقيبة والتعامل معه وكأنه خالٍ من العيوب. فهو كان مستبداً، حيث اغتال منافسه على زعامة الحزب صالح بن يوسف، وسجن اليساريين والقوميين والإسلاميين، ونص في الدستور على رئاسة مدى الحياة، فوقف بذلك سداً منيعاً ضد تحول تونس إلى دولة ديمقراطية. لكن في المقابل هو ليس شيطاناً، وله محاسن كثيرة هي التي جعلت منه شخصية استثنائية. عرف كيف يفاوض الاستعمار الفرنسي، وهو ما مكنه من أن ينحت مع غيره دولة صغيرة، لا تزال تثير كثيراً من الإعجاب. لقد قدم لتونس ولشعبها مكاسب عديدة، وقد علَّمنا الإسلام أن نقول للمحسن أحسنت، حتى لو أساء في حقنا مرات عديدة.