كما الفارق بين ما قبل الكهرباء وما بعدها، أو ما بين قبل الكومبيوتر والإنترنت وما بعدهما، كذلك شكّل أمر تفكيك شيفرة الجينوم البشري مرحلة فاصلة في الطب، إذ يتوقّع أن تقطف الأجيال القادمة ثمارها عبر زيادة معدلات الأعمار ومعالجة الأمراض المستعصية بطريقة جذرية و...اقتصادية. وخلال السنوات القليلة الماضية، انخفضت كلفة تفكيك شيفرة الجينوم البشري، وهو المتضمّن في حمض الوراثة «دي آن إيه» بمعدّلات لم تكن تخطر على البال. وبعد أن استغرقت أول عمليّة لتفكيك شيفرة الجينوم سنوات طويلة من الجهد، عبر «مشروع الجينوم البشري» Human Genome Project، وساهمت فيه دول ومؤسسات عملاقة، صارت عملية تفكيك الجينوم مسألة روتينية تمارس يوميّاً في مختبرات الشركات ومؤسسات البحوث، بل بعض المستشفيات الكبرى أيضاً. لذا، يقدّر لورنت آلكسندر، رئيس شركة «دي أن أي. فيجين» الطبية، أن ثورات التكنولوجيا الحديثة ربما ساهمت في زيادة معدّلات الأعمار بصورة كبيرة خلال القرن الواحد والعشرين، بل أن تلك الزيادة قابلة للاستمرار. من الانترنت إلى البيولوجيا منذ بداية القرن ال21، توسّعت تطبيقات عملية تفكيك شيفرة الجينوم البشري، بل بلغت مرحلة من السهولة والجدوى الاقتصادية الكبيرة. فبينما تطلّب الأمر، لأول عملية تفكيك كامل في عام 2003، مشاركة 22000 باحث و13 عاماً من العمل البحثي، بكلفة إجمالية بلغت 3 بلايين دولار، تجري العملية حاضراً خلال أيام قليلة، بكلفة لا تزيد على ألف دولار. ويعتقد آلكسندر أن العقد المقبل ربما شهد التعرّف إلى شيفرة الشعب الفرنسي بأكمله. وأبدى «غوغل» محرّك البحث العالمي على شبكة الإنترنت، اهتماماً فائقاً بسوق بحوث تفكيك شيفرة الجينوم البشري. وأفرد للأمر صفحات أساسيّة على موقعه. ويشيع في الأوساط الطبيّة أنه بفضل التكنولوجيات الطبية الحديثة، من المتوقّع ارتفاع متوسط العمر للإنسان بصورة كبيرة في العقود المقبلة. وفي تلك الآونة، تستمر ثورة التكنولوجيا في التمدّد، معتمدة على 4 أعمدة علميّة أساسيّة، هي: النانوتكنولوجيا، والبيوتكنولوجيا، والبرمجة والكومبيوتر، وعلم محاكاة الدماغ البشري. ويعتزم «غوغل» الدخول على ذلك الخط التكنولوجي الذي بات يعرف باسم «الصراع ضد الموت»، عبر وسائط معرفيّة تدعمها توظيفات ماليّة كبيرة. وفي عام 2013، أسّس «غوغل» شركة متخصّصة في بحوث التقنيّات البيولوجية Biotechnology، حملت اسم «كاليكو» Calico. وتعلن «كاليكو» أن هدفها هو التعامل مع ظاهرة الشيخوخة، عبر محاولة زيادة متوسط الأعمار بقرابة 20 عاماً مع حلول عام 2035. وفي رؤية أكثر طموحاً، تشير «كاليكو» إلى أنها منخرطة على المدى البعيد، في عملية تسميها «قتل الموت ببطء»، بحسب ما يظهر حرفيّاً في نص أهدافها في موقعها الشبكي. موت الخلايا وفق رأي الباحث الدكتور كاظم زيبارة من المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية، ليس هناك سبب علمي لموت الخلايا، إذ أنها تتجدّد باستمرار إلى ما لا نهاية، إذا لم تضربها مؤثّرات خارجيّة تؤثّر في تركيبتها الجينيّة. في المقابل، من المعروف طبيّاً أن هناك دوراً أساسيّاً يؤدّيه التركيب الجيني نفسه في ظاهرة موت الخلايا، خصوصاً الجزء المُسمّى «تيلومير» Telomere. وبحسب الفرنسي آلكسندر، ربما يكون هناك مجال للصراع مع ظاهرة توقف الخلايا عن التجدّد، ما يرفع معدّلات الأعمار. ويرى آلكسندر أن الشخص الذي سوف يعيش آجالاً مديدة ربما وُلِد حاضراً، بمعنى أن عمره في نهاية القرن الجاري لن يزيد على 86 سنة، ما يجعله مرشحاً للاستفادة من التطورات الهائلة للتكنولوجيات البيولوجية، بحيث يستطيع العيش مديداً. ويرى آلكسندر أن التكنولوجيات الطبيّة سوف تكون قادرة مستقبلاً على أشياء تفوق التصوّر، ما يجعل البشر قريبين جداً من انقلاب حميد في نظامهم الصحي. ويطرح آلكسندر سؤالاً: «ماذا سوف نكون قادرين على فعله بعد 20 سنة، ولا نستطيع فعله اليوم»؟. ويرى أن الإجابة تكمن في «شخصنة» الطب، بمعنى الربط بين معطيات الطب الحديث والشيفرة الوراثيّة للفرد بما تحمله من معلومات دقيقة عن أسباب الأمراض الجدّية التي تصيب كل شخص. وفي مرحلة تالية، ينتقل الأطباء من «شخصنة» الطب بواسطة الجينات، إلى إدخال تعديلات مباشرة على التركيب الجيني للأفراد، ما يؤثّر في قدراتهم الصحيّة. في السياق عينه، يتوقع آلكسندر أن يكون الصراع ضد الشيخوخة أحد أضخم أسواق البيولوجيا والطب في القرن الحادي والعشرين، مع إمكان أن يترافق الأمر مع تطوير قدرات البشر أيضاً. ومثلاً، ربما وجدت البشرية منخرطة في مواجهة تنافسية بين الذكاءين الاصطناعي والبيولوجي. ويتوقّع مديرون في «غوغل» أنه في عام 2035، سوف يكون الذكاء الاصطناعي أقوى ببليون مرة من مجموع الأدمغة البشرية قاطبة، ما يدفع آلكسندر إلى توقع حدوث تغيير شامل في الاقتصاد، عند بلوغ تلك المرحلة. في المقابل، تجد ثورة البيوتكنولوجيا مراكزها الأساسية في نيويورك وبوسطن وسياتل و»وادي السيليكون». وهناك، يجري تجميع القوى الرئيسة للصراع ضد الشيخوخة، بفضل تطوّر متساوق في الطب والجينات والكومبيوتر والشبكات. * رئيس «الهيئة الوطنية للعلوم والبحوث»- لبنان