إنه الجسد، بالأحرى شبابه المستدام. شغف القرن 21 بلا منازع، وبأضعاف ما كانه في حقب سابقة. بات الانشغال باستمرار الجسد في نضارته وصباه وعنفوانه وألقه، هاجساً حربائياً، بمعنى أنه يتحدث بألسنة متعدّدة. مستحضرات لا تحصى لشدّ الخدود وإزالة التغضّن عن الجفون، عمليات لا حصر لها لإدامة شباب الوجه، وإزالة التهدل عن الصدر، وشفط ما تراكم من دهون. سيول من نصائح عن مآكل صحيّة معناها الأبرز أن تستبقي الشباب في الجسد، رواج لأدوية تعزّز الذاكرة وتقيها من شيخوختها وخرفها، هي أيضاً تخدم ديمومة الشباب في الجسد. لا حصر للصور التي تحضر بها هذه الثنائية: خيال لجسد بشباب مستديم من جهة، وعلوم طبيّة تستطيع جعل هذا الخيال المشتهى حقيقة حاضرة، بل في متناول الجميع. ثمة ثنيّة خاصة في هذا الموضوع. هناك مجموعة كبيرة من التقارير الاستراتيجية الصادرة عن مراكز ذات مرجعية عالية، تشدّد على أن معدل الأعمار عند الجنس البشري، هو في تصاعد مستمر منذ بداية القرن العشرين على الأقل. وفي هذا السياق تحديداً، يأتي الحديث عن ظاهرة «الشعر الأبيض» وتصاعدها، بمعنى زيادة ملحوظة ومتواصلة في الفئات الأكبر سنّاً. في بلدان كاليابان، بات هذا المتغيّر الديموغرافي واقعاً يوميّاً، بل ربما دخل القوانين وغيّر في موازين السوق ومعطياتها. على «يوتيوب»، هناك شريط يظهر فيه كوري جنوبي يحرّك ثلاثة دواليب «هيلا هوب» على جسده الرشيق، ومكتوب على لافتة قرب قدميه «صُرِفت من العمل لأن المدير يعتبرني شيخاً لا يصلح للعمل»! مصانع الخلايا بالنانومتر في جسد الإنسان ما يزيد على 200 ألف بليون خليّة، يعتبر كل منها مصنعاً تشغّله أجهزة بيولوجية تقاس بالنانومتر. وتتيح ثورة النانوتكنولوجيا التعامل مع هذه المصانع، وشيفرة الوراثة، ووظائف الأنسجة، بما فيها الأعصاب في دماغ الإنسان التي تتصل بذكائه. لماذا لم تصل أصداء هذه الثورة التكنولوجية الطبية إلى آذان الناس؟ يرجع الفرنسي لورنت آلكسندر، وهو اختصاصيّ بعلوم الجينوم، هذا الأمر لسببين أساسيين. يتمثّل الأول في «خفاء» عمل مجتمع الأطباء وتجاربه وبحوثه، فلا يصل الناس إلا قدر شحيح عنه. وقبل 12 عاماً، توصّل علماء الطب إلى تفكيك الشيفرة الوراثيّة للبشر. وشرعوا في صنع «الحجارة» الأساسيّة التي تساعد في ترميم هذا الكائن. ولن يبدأ تعميم هذه التكنولوجيا وتداولها على نطاق واسع، إلا في العام 2015. ووفق آلكسندر، يتجسّد السبب الثاني في أن الباحثين العلميين والأطباء أنفسهم لم يسيطروا كليّاً على منجزاتهم الوافرة الحديثة. وفي عام 1970، رأى الدكتور فيليب شارب، مدير قسم البيولوجيا في «معهد ماساشوستس للتقنية» وحامل جائزة نوبل للطب والفيزيولوجيا لعام 1993، أن الصغر الفائق للحمض الوراثي النووي، يحول دون إحداث تغيير فيه. وفي 1990، ساد شبه توافق بين علماء البيولوجيا الوراثية على أن البشر لن يتوصّلوا إلى تحليل كامل الجينوم البشري، إلا قبل قرون. وفي عام 2003، شرعت أيدي العلماء في إزاحة الستار عن تركيبة الجينوم الكاملة. خرجت من الظل ثورة البيوتكنولوجيا، وبرزت للجمهور الواسع، مع الكشف عن الخريطة الكاملة للجينوم البشري. استغرق التعرّف إلى تركيبة الجينوم عقداً من السنوات، مع إنفاق بلايين الدولارات. وحاضراً، هناك آلات تستطيع تفكيك شيفرة جينوم الأفراد في أيام معدودة، وبكلفة تلامس العشرة آلاف دولار. ومن المتوقّع أن تصل هذه الكلفة إلى مئة دولار في غضون سنوات قليلة. إذ تسجّل هذه الكلفة هبوطاً ب 50 في المئة كل خمسة شهور، ما يعني أنها انخفضت بنسبة 3 ملايين مرّة خلال تسعة أعوام. 3 موجات متداخِلَة يشبه الأمر «تسونامي» تكنولوجيا! فمع تفكيك الجينوم للأفراد، ينفتح الباب أمام طب مخصّص لكل فرد أيضاً، وهو أمر فائق الأهمية في أمراض السرطان مثلاً، التي تهدّد ربع البالغين عالميّاً. هذا الانفجار التكنولوجي ليس بمسبوق، بل أدهش الباحثين أنفسهم. ولو تجرّأ أحد في عام 2000 على القول بالانتقال من التعرّف إلى المسوّدة الأولى للجينوم في ذلك العام إلى الخريطة الكاملة لجيناته في 3 سنوات، لوصف بأنه مفرط في التفاؤل. لكن الأمر تحقّق فعليّاً! هناك 3 موجات متداخلة من الإبداع التكنولوجي المتسارع. تتضمّن الموجة الأولى الثورة الإلكترونية في الطب. ففي تسعينات القرن الماضي، زرعت رقاقات في الأذن الداخليّة لمعالجة الصمم. وحاضراً، هناك محاولات لزرع رقاقات لعلاج مرض «الشلل الرعاش» («باركنسون»)، كما ظهرت الأشكال الأولى للشبكيات الاصطناعية للعين، وزرع أول قلب اصطناعي بالكامل لرجل في ال 75 من عمره في فرنسا في 2013 الماضي، ما زال يعمل بانتظام. وتطوّرت جراحة الروبوت. ويراهن البعض على أنه في عام 2030، لن يحتاج الجراحون إلى لمس المريض بأيديهم. تتناول الموجة الثانية هندسة الخلايا الحيّة على مستوى الحمض النووي، بمعنى التدخّل في التركيب الجيني للكائنات الحيّة. وهناك طموح لإعادة استيلاد أنسجة حيّة بواسطة خلايا المنشأ. وفي 2013، صنعت حنجرة اصطناعيّة كاملة وزرعت في مريض بديلاً لحنجرته التالفة. وبدأت طلائع الموجة الثالثة في الظهور مع «طب النانوتكنولوجيا» Nano Medicine (الطب على مستوى جزء من مليون من الميلليمتر). وانعقد «المؤتمر الدولي السنوي الثالث للطب النانوي» في 2012، فشهد تسابقاً على رسم خطط لزراعة أشياء أصغر فأصغر، ولربما زرعت في الأنسجة ودواخل الخلايا. ومع هذه الآفاق الثلاثة للإبداع الطبي التي تظهر خلال العقد المقبل، ربما صار مستطاعاً الإبحار من موجة تكنولوجية إلى أخرى، وصولاً إلى تحقيق عمل إطالة معدلات الأعمار، إضافة إلى التمتع بشيخوخة طويلة و «شابة» أيضاً! وهناك من يعتقد، على غرار آلكسندر، أن جسد الإنسان قابل للديمومة لمئات الأعوام! ماذا عمن هم أقل تفاؤلاً من آلكسندر؟ يشير هؤلاء إلى أن تضاعف معدل الأعمار يطرح مشكلة على مسائل شتى كالعمر التقاعدي للإنسان. كيف تتغيّر، حينها، طبائع الناس؟ هل تذبل صورة الأديان في أذهان البشر أم تنتعش؟ هل أن تراجع الموت يستبطن تغيير القيم الإنسانية؟ هل يصبح الموت مطلباً؟ * رئيس الهيئة الوطنية للعلوم والبحوث