مُحيّرة هي الأفلام الروائية والتسجيلية الإيرانية التي تُنفذ بسِرّية وبعيداً من رقابة السلطات في الجمهورية الإسلامية. فبعد فيلمين من هذا النوع للمخرج المعروف جعفر بناهي عُرضا على نطاق واسع في الأعوام الثلاثة الماضية، حقق زميله محمد رسولوف (حاز نصيباً مُهماً من الاهتمام الدولي بعد عقوبات السجن ومنعه من ممارسة أي نشاط سينمائي التي طاولته مع زميله بناهي عام 2011)، الفيلم السِرّي الثاني له في غضون ثلاثة أعوام، وهو «المخطوطات لا تحرقها» الذي صنع في ظروف مشابهه لفيلمي جعفر بناهي، ولفيلم المخرج السابق الذي حمل عنوان: «وداعاً». فكيف يمكن في البلد الذي يعجز المرء فيه عن حمل كاميرا فيلم صغيرة في الشارع من دون أن يُثير الشكوك، وربما يواجه بأسئلة من السلطات الأمنية، وتُمارس الأخيرة رقابة مُحكمة على كل الصور الخارجة منه، أن يواصل مخرجان شهيران ومعروفان بمواقفهما الحّادة من النظام السياسي لبلدهما، النشاط الأساسي الذي أثار السلطات عليهما، ومنعتهما سلطته القضائية من الاستمرار فيه، أي الوقوف خلف الكاميرات وتصوير أفلام تُقدم قصصاً عن الناس والحياة في البلد؟ لا مسرحية في الأمر! هذا لا يعني طبعاً أبداً أن المخرجين مشتركان في «مسرحية» رسميّة جديدة تتفاعل مع موقف الحكومة الإيرانية من الإنتاج السينمائي في المرحلة الراهنة، لكن التشكيك في النزاهة الكاملة لوصف «السِرّية» لهذه الأفلام ربما يكون مدخلاً جديداً لفهم الصناعة السينمائية الإيرانية في حِقْبَة الجمهورية الإسلامية في شكلها العام، والتي لا يزال الغموض يكتنف أبرز مفاصلها، لجهة هامش الحريات الممنوحة للمخرجين الإيرانيين، وتدخل السلطات في ما يصل إلينا كمشاهدين، وكيف يُمكن أن تغض السلطات نظرها أحياناً عن إنتاج أفلام جريئة بنقدها للنظم الحاكمة. فكل الدلائل تُشير الى أن في أجهزة حكم إيران نفسها، من يعتقد أن من الحماقة إيقاف عجلة الصناعة السينمائية الفنيّة بالكامل، والتي قدمت «البضاعة» الثقافية الإيرانية الأكثر رواجاً واحتراماً وقربت كثيرين من العالم الخارجي لما يجري في البلد، وعرّفت الوسط السينمائي الدولي الجاد بمواهب محلية كبيرة. هذا التفسير يبدو مهماً لفهم بنية أو عِلَل «الأفلام السِرّيّة» نفسها، وكيف تأرجحت بين «الكشف» و«الاختباء» وراء الترميز المعروف في السينما الإيرانية، الى الدرجة التي جعلت معظم هذه الاعمال يتيه في محاولات إيجاد طرق لتقديم القصص التي تتناول الحياة في إيران المعاصرة، وبالتحديد في الزمن الذي أعقب انتخابات الرئاسة الإيرانية عام 2009. وهي الأحداث نفسها التي قادت الى العقوبات القانونية التي تُطارد وتَنَغّص حياة المخرجين جعفر بناهي ومحمد رسولوف وآخرين غيرهم والمتواصلة الى اليوم. قصص الواقع الصعب يتابع فيلم «المخطوطات لا تحرقها» لمحمد رسولوف (افتتحت العروض العالمية للفيلم في دورة مهرجان «كان» السينمائي للعام الماضي ويعرض الآن في صالات سينمائية هولندية) المسارات نفسها للعمل السابق» «وداعاً»، والذي عرض أيضاً في مهرجان «كان» السينمائي عام 2011، بغضبه مما يحدث في البلد وتقديمه قصصاً عن واقع إيراني صعب، والخيبة المرّة التي عمت أوساط واسعة من الإيرانيين بعد هزيمة تيار الإصلاح في الانتخابات الرئاسية عام 2009. في فيلم «وداعا» تحاول مُحامية إيرانية الهجرة من إيران الى دولة غربية، بعدما وصلت طُرق حياتها في بلدها الى نهايات مسدودة بسبب مشاكل بعضها شخصي وأخرى لها علاقة بالوضع العام. اما الفيلم الأخير، فهو يبقى (وعلى خلاف أفلام المُخرِج في الفترة التي سبقت عام 2009)، مع الواقع الإيراني المُعاصر، مُقدماً قصة عن وحدة أمنية إيرانية تتعقب كُتّاباً معارضين معروفين من أجل الحصول على مخطوطات الكُتب التي كتبوها، قبل أن تُطبع او تصل الى العالم. هناك خطان دراميان يسيران بالتوازي في معظم زمن الفيلم، وعندما يلتقيان، يتفجر العنف، الخط الاول يتعلق بقاتل مأجور، استعان به الجهاز الأمني لترهيب ضحاياه، اما الثاني فبكاتبين إيرانيين يعيشان الانعزال والخوف، ففقدا الأمل بالمستقبل، بل تتردد على أحدهما هواجس الهجرة وترك البلاد، والالتحاق بإبنة له تعيش في فرنسا. ومع الأخذ في الاعتبار أن غالبية مشاهد الفيلم تم تنفيذها بعجالة وسِرّية (صور بعض المشاهد خارج إيران كما قيل وقتها)، لا يشكو العمل الفنيّ كثيراً من ضيق الأجواء المُغلقة. فمشاهد القاتل المأجور وزميله الخارجية تميزت بفضاءاتها السينمائية المفتوحة، وأحياناً تجريبها الشكليّ، فيما ظلت مشاهد الشخصيات المُثقفة حبيسة الشقق الأنيقة. لم تُقدَّم شخصيات الكتاب او شخصيات رجال الأمن خارج الأُطر التقليدية المُعروفة لسينمات تخضع لرقابات فكرية، اي انها ظلت (لا شعورياً) حبيسة الرقابات على رغم أنها صوّرت خارج تأثيرات الأخيرة، فبقيت المعالجة تدور حول الموضوعة من دون أن تعرّيها تماماً. صحيح أن الفيلم الإيراني هذا قطع أشواطاً عما اعتادت السينما الإيرانية تقديمه، لكنه بقى بعيداً من تقديم العنف الكافي الملائم للمقاربة الخاصة المنتظرة منه، ما عدا مشاهد قليلة جاءت مبعثرة في نهاية الفيلم. كما يبدو أن الفيلم عانى من إيجاد الممثلين المناسبين، ليغلب الأداء النمطي، والذي اقترب أحياناً من الكاريكاتورية، تمثيل أبطال الفيلم، وبخاصة رجال الأمن، الذين بدوا كمزيج من رجال أمن من دول شيوعية غابرة، وزملاء لهم آتين من المسرح بكل ما يحمله هذا الأخير من تكلّف أحياناً. سيهيمن الخطاب المسرحي على تفصيلات الأداء والحوارات التي جاءت ك «مانيفستو» تغلب عليها الشاعرية والتأزم لنخب مثقفة بالمطلق، من دول تغيب عنها الحريات، وليس نتيجة تصادم الشخصيات الفعليّ او لتطورات السيناريو ذاته. بعد بدايات شاعرية لا ينتمي الفيلمان الأخيران لمحمد رسولوف، بسوداويتهما وانغماسهما في الواقع القاسيّ، الى البداية السينمائية التجريبية الشاعرية الرائعة للمخرج الإيراني الذي يقترب من منتصف الأربعينات من العمر، فجاءت الأفلام الاخيرة على ارتباط بزمن وشخصيات واقعية على النقيض من أفلام سابقة له مثل «جزيرة آهني» و «المُروج البيضاء»، اللذين تميزا بسحريتهما المنطلقة بلا حواجز، وزمنهما الأبدي غير المحدد، وأسطرتهما لفئات إيرانية حقيقية تعيش على الهوامش في البلد. فمن الواضح ان الظروف الإيرانية السياسية المُعاصرة هي التي أجبرت مُخْرِجاً فَذّاً كمحمد رسولوف على تغيير دفته السينمائية، لتكون نتيجة عمليه الأخيرين متوسطة في مُجملها، وبالتأكيد لا تقترب من السيرة المميزة السابقة للمخرج. صحيح أن هناك الكثير الجيد في الفيلمين الأخيرين، لكنهما لن يحملا قيمة المنجز السينمائي ل «جزيرة آهني» مثلاً، الفيلم الملحمي المدهش، الذي يقدم الحياة في سفينة إيرانية صدئة تحمل إيرانيين فقراء وتعوم في «اللامكان» و «اللازمان». على رغم أن كل شيء يُشير في الفيلم الى أن السفينة تلك هي «كنايّة» عن «إيران» مُعاصرة، بكل همومها وتحدياتها وانحطاطها، إلا ان الفيلم حافظ على وحدة درامية فنية مُستقلة مستندة إلى حكايات عدة، وقام المخرج بإدارة جمع الممثلين الضخم بتمكن كبير، ووصل بالفيلم الى ذروات درامية مُتفجرة، تناسب الشكل السينمائي المتفرد بجماليته الذي قُدم فيه، ومن دون أن يُثقله بالترميز... او فيلمه الآخر «المُروج البيضاء»، الشاعريّ السرياليّ، والذي يُقدم قصة رجل غامض (كشاهد أبدي على التاريخ الإيراني)، والذي يلتف على جزر إيرانية مُتخيّلة، مستمعاً الى قصص الحزانى وجامعاً دموعهم، ليحولها الى أحجار نفيسة، وهو الفيلم الذي لم يتخلّ عن الهموم والمرجعيات الإيرانية المُعاصرة، لكنه وصل اليها عبر حكاية قُدمت بسينمائية سِحْرية خالِصّة.