بعدما سكنت صيحات التخوين، وهدأت هتافات التهديد، وهمدت برامج التوليع، وانبثقت ملامح أوضح لشرق أوسط جديد سرقت الأضواء الدولية بعيداً من «شرعية» جماعة «الإخوان المسلمين» وشريعتها وتصنيف الإرادة المصرية وتوصيفها، ينشغل المصريون هذه الأيام برسم خريطة جديدة للفروق الأيديولوجية والتصنيفات السياسية والاستقطابات التعريفية والتنظيرات العنبكوتية، حيث عملية إحلال وتبديل وإبدال وتسويغ للواقفين والواقفات على طرفي النقيض. تحول «شريف» (29 عاماً) من فريق «شباب الثورة» حين طالب قبل ما يقرب من أربعة أعوام بإسقاط نظام حسني مبارك الفاسد وإقامة دولة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، إلى جماعة «عاصري الليمون» المضطرة أخلاقياً والمدفوعة مثالياً إلى اختيار محمد مرسي في مواجهة أحمد شفيق، لأن الأول «يسهل إسقاطه» لكن الأخير يستعصي خلعه، ومنها إلى غالبية «كارهي الإخوان» بعدما انكشف وبان مشروع الخلافة ونية خيانة الوعود. وبعد مشاركته في جهود إسقاط حكم الجماعة ومساعي إزاحة «طائر النهضة» ووقوفه في طوابير الاستفتاء على دستور مصر الحديث وانتخاب رئيسها الجديد، يجد نفسه اليوم موجِّهاً جام معارضته وجلّ انتقاده إلى «مخابيل السيسي»، وهو المسمى الجديد والاتهام الطريف الموجّه من «الإخوان» والثوريين إلى الغالبية المؤيدة للنظام الجديد والداعمة لخطواته والمباركة لتحركاته والمصدقة لتحدياته. ودائماً يجد المصريون أنفسهم، بفعل الاستقطاب المقصود أو سوء الحظ المكتوب، مصنفين في خانتين متواجهتين متناقضتين متربصتين إحداهما بالأخرى، حتى إن كانت الغاية واحدة والمصلحة عامة. فما زال الاستقطاب مستمراً بعد ما يقرب من أربعة أعوام هي عمر الثورة. فبعد موجة استقطاب أولى قسمت المصريين إلى ثوريين في مقابل أعداء الثورة من الفلول وأنصارهم والإسلاميين المحرّمين لفكرة الخروج على الحاكم، جاءت موجة ثانية أعادت غربلتهم فانقسموا خانة تضم الثوريين الذين انضم إليهم الإسلاميون المحللون لفكرة الخروج على الحاكم، في مقابل استمرار وجود كارهي الثورة الذين انضم إليهم جانب غير قليل من المواطنين في الخانة المقابلة. ثم بزغت موجة ثالثة، سطع خلالها نجم الإسلاميين في مقابل كارهي الثورة الذين باتوا أقلية في تلك الخانة التي انضم إليها المصريون بأعداد متزايدة وقطاع من الثوريين، وهي الموجة التي أدت إلى تظاهرات 30 حزيران (يونيو) 2013 وما تبعها من عزل لمرسي والجماعة. وتتبع تلك الموجة هذه الآونة جبهتان رئيستان، الأولى تحوي الغالبية المؤيدة للنظام الحالي بخطواته وسياساته والمقدرة تحدياته والمسامحة أخطاءه والمتفهمة أوضاعه، في حين تحوي الثانية بقايا الجماعة وأطلال الجماعات الشبيهة ومعها بعض الثوريين والناشطين والمنظّرين والمشكّكين والمطالبين بمسار ثالث تؤمن الغالبية بعدم وجوده. ويتبادل أعضاء الجبهتين التراشقات اللفظية حيناً، والتلسينات العنكبوتية أحياناً، والإهانات الفكرية دائماً. وبعدما كان وصف «مخابيل» يطلق حصرياً على قواعد الجماعة باعتبارهم «مخابيل مرسي»، انفجر التوصيف في وجه مطلقيه الذين وجدوا أنصار «الإخوان» ومعهم بعض من الثوريين والناشطين ينعتونهم ب «مخابيل السيسي». وانفتحت صفحات المعايرات والتنابزات، حيث معايرة رئيس فضح المصريين بمظهر وسلوك دون مستوى الرئاسة في مقابل آخر أعاد إلى شعبه ثقته في مكانته بين الدول. ولما كان الجزاء من جنس العمل، أتى الرد سريعاً عبر تشكيكات «إخوانية» في قدرة النظام على توحيد صفوف المصريين وتريّبات حقوقية في وضعية حقوق الإنسان ومصير قانون التظاهر وسخريات ثورية من حقيقة المؤامرات والتربصات التي تواجهها البلاد. وبعدما كان متحدثون باسم النظام يردون على تشكيكات هنا وترتيبات هناك وتلسينات هنا وهناك، أخذ مصريون عاديون على عواتقهم مهمة دحر التشكيكات ودحض التخوينات. وفي كل مساء، تشتعل صفحات «فايسبوك» بمنازلات نظرية ومناوشات سياسية بين أصدقاء يرون أن عبارة «مصر أحسن من سورية والعراق» (وانضمت إليهما ليبيا وبعدها اليمن) حجة البليد وشماعة السخيف، وآخرون يردون بأن من لا يرى عبر الغربال فهو أعمى، أو يدعون أولئك إلى ترك مصر التي «ليست في حال أفضل» والتوجه فوراً إلى دولة الخلافة حيث «داعش»، أو الربيع الثوري حيث «جيش النصرة»، أو التحول الديموقراطي حيث «أنصار الشريعة»، أو نموذج الثورات الناجحة حيث سيطرة الحوثيين. وإذا كانت الجبهة التي تحوي غالبية ترى في النظام القائم حلاً وحيداً لا ثاني له سوى سيطرة الإسلاميين على الحكم مجدداً، تضم أطيافاً مختلفة وفئات عدة بعضها يؤمن بوطنية الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبعضها يرى في ما جرى في مصر إنقاذاً لها من مصير دول أخرى في المنطقة، وبعضها لم يكن مؤيداً لرئيس جديد من المؤسسة العسكرية لكنه اقتنع بأنه الحل الأوحد، فإن الجبهة المقابلة تحوي عناصر أكثر تنافراً وأقل تناغماً حيث قواعد «إخوانية» لا تنطق إلا بشرعية مرسي وشريعة الجماعة، وناشطون وحقوقيون لا يقنعون إلا بما ورد في كتاب الحقوق والحريات وصفحات ميثاق الأممالمتحدة، ومعهم شباب أنقياء وثوار أتقياء يؤمنون بحقوق مطلقة وعدالة مسبقة ومسارات ثالثة ورابعة وخامسة تعثرت وتحجّرت وتحنّطت. تحنيط المسارات أو تحجّر الاختيارات لم يعد هماً شاغلاً يشغل جموع المصريين أو يهم عموم المواطنين، بل وصل الجميع إلى قناعة بأن «مخابيل السيسي» لا يواجهون فقط «مخابيل مرسي» وبعض الأنقياء والأتقياء والعكس، بل إن الجميع يواجه مصيراً واحداً ويمشي طريقاً وعراً وينتظر منتهى غامضاً.