أثناء كأس العالم في فرنسا 1998، أعلن جان ماري لوبان زعيم اليمين المتطرف الحرب على لاعبي منتخب الديوك الذين لا يُنشدون «لامارسييز» التي يعتبرها كثير منهم حاملة لمضامين عنصرية واستعمارية، (..) ونسيَ لوبان الضابط الذي فُقأت عينه في حرب الجزائر، أن هؤلاء اللاعبين هم أبناء المستعمرات الفرنسية القديمة أو من أبناء المهاجرين من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، حتى إنهم لم يحصوا من بين منتخب 1998 الفائز بكأس العالم سوى لاعب واحد من أصول فرنسية أباً عن جد، ومع ذلك، فإن لوبان اتهم هؤلاء «الأبطال»، ومن بينهم زيدان، بعدم الولاء لفرنسا نشيداً وعلماً وانتماءً. وقبل أعوام، انزعج الفرنسيون من مناصري منتخب الجزائر، وهم يرسلون صافرات الاستخفاف بلامارسييز أثناء مباراة ودية بين المنتخبين، واعتبر شيراك الذي حضر المباراة أنه «أمر خطر»، وكان القرار السياسي المتخذ آنذاك أنه في حال «عدم احترام النشيد الفرنسي»، فعلى اللاعبين مغادرة الملعب (..)، فسمعوا في اليوم الموالي من يقول: «يمكن في هذه الحال لمنتخب جزر فيجي أو سلطنة بروناي أن يهزمان فرنسا بالتصفير على نشيدها..»، فتراجعوا عن الأمر، وفتح ساركوزي ملف «الهوية الفرنسية»، وهو ابن المهاجر الهنغاري الذي جاء إلى فرنسا قبل عامين (..)، والهدف من هذا النقاش هو محاولة إقناع أبناء المستعمرات القديمة بضرورة الانخراط أكثر في منظومة القيم التي تحكم فرنسا، بدءاً باللغة وانتهاءً بحفظ لامارسييز وترديدها إذا دعت الضرورة، وهو ما لم يتحقق، لأن المسألة ليست سياسية أصلاً بل هي ثقافية، ولا يمكن لوافد من مالي أو تونس أو الجزائر أو الكاميرون أن يتحول إلى فرنسي يشعر أن له امتداداً في الثورة الفرنسية وموقفاً من حروب نابوليون. ومنذ أيام قال كريم بن زيمة: «لن يُكرهني أحد على ترديد لامارسييز»، ففتح أبواب الجحيم على نفسه من اليمين المتطرف وبعض المتعصبين في فرنسا، واعتبروا ذلك إساءة ومساساً بكرامة الدولة التي منحته حق تمثيلها في المحافل الدولية، ولكن لاعب الريال لم يهتم كثيراً لذلك، لأنه يعلم جيداً أن فرنسا تريده مثلما أرادت أن يكون زيدان وبلاتيني وتورام وكرامبو، وهم ليسوا فرنسيين وممثلين لها، وجالبين لها المجد والشهرة، فمن حسن حظ الفرنسيين أن بن زيمة لا يحفظ نشيد «القسم» الجزائري، وإلا ردده، أليس من الحكمة أن يقبلوا بصمته. ولم يختلف الوضع مع ريبيري الذي كان يتعمد الرد على الصحفيين الفرنسيين باللغة الألمانية، فاعتبروا هذا أيضاً إهانة للغة فولتير عنوان الهوية الفرنسية. إن فرنسا التي تعطي مسألة الهوية موقعاً أساسياً في استراتيجية تعاملها مع العالم، تضع ما يسمى بالاستثناء الثقافي في كل الاتفاقات والمعاهدات الدولية، أي أن اللغة الفرنسية هي خط أحمر، والثقافة الفرنسية هي كيان مختلف، وأن الهوية الفرنسية لا تقبل القسمة على اثنين أو ثلاثة، وبالتالي فلا يحق لبن زيمة أن يرفض عدم إنشاد لامارسييز، لأنه يحمل ألوان فرنسا، ولو كانت جذوره جزائرية، فالمسألة ليست مزاجاً بل حتمية تفرضها الهوية والانتماء، لكن كريماً له رأي آخر، هو أنه يلعب بقدميه، وليس بترديد كلمات نشيد. قرأت نشيد لامارسييز أكثر من مرة، وبدا لي أنه قاسٍ جداً، ويتضمن فقرات، لا أعرف لماذا أبقى عليها الفرنسيون، وفيها تعريض بالعبيد، وهو ما يتعارض مع مبادئ الثورة الفرنسية «الأخوة والعدالة والحرية». المحظوظون في كل هذا هم الإسبان، لأنهم يملكون نشيداً بلا كلمات، وبالتالي، فلن يزعج هذا لاعبي كاتالونيا المنضويين تحت الراية الإسبانية، وهل سيعيد بلاتر فتح ملف إمكان إلغاء عزف أناشيد الدول حتى لا تتعرض للإهانة والسخرية أم أنه سيقول يكفي أنني فتحت جبهة مع بلاتيني؟ [email protected]