في صيف عام 2002 كان وفد من أبرز قادة المعارضة العراقية وصل إلى واشنطن، بدعوة من البيت الأبيض. السؤال الاكثر إلحاحاً كان: هل حسم الأميركيون الأمر هذه المرة، وسينقضون على نظام الرئيس صدام حسين؟ مبررات السؤال كانت تنطلق من مخاوف أن يغيّر الأميركيون موقفهم في اللحظة الأخيرة لأسباب داخلية وخارجية، فضلاً عن عدم وجود برنامج أميركي حقيقي ل «مرحلة ما بعد صدام». ما خرج به وفد المعارضة العراقية بعد محادثاته في وزارتي الخارجية والدفاع والبيت الأبيض، أوجزه زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (الرئيس العراقي حالياً) جلال الطالباني بقوله إن «الرئيس الأميركي جورج بوش أبلغ المعارضة العراقية أنه مصمم على إتمام العمل الذي أخفق والده فيه وهو إطاحة صدام»، مؤكداً في مقابلة مع صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية أن «وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد انتقد ضمناً الرئيس الأسبق جورج بوش الأب لتركه صدام في الحكم عقب حرب الخليج لأكثر من عشر سنوات». هنا، بدا الأمر جدياً لمن كان يطلق عليهم «الخمسة الكبار» في المعارضة العراقية (طالباني وبارزاني، محمد باقر الحكيم (مثله شقيقه عبدالعزيز)، أياد علاوي وأحمد الجلبي)، إذ إنهم استغربوا هذا الإصرار على إسقاط صدام إلى حد توجيه النقد للرئيس جورج بوش الأب على تركه الرئيس العراقي من دون عقاب في حرب تحرير الكويت عام 1991. طالباني قال: «عندما تحدث رامسفيلد إلينا قال إن الإدارة الأميركية مصممة على أن لا تقوم بنصف عمل كما فعلت عام 1991 لأنه عندما نبدأ بعمل فلا بد من إنهائه والوصول إلى المرحلة الأخيرة ألا وهي القضاء على الديكتاتورية». القصف الإعلا مي قبل الصاروخي مع مغادرة «الخمسة الكبار» واشنطن، كان العد التنازلي للحرب بدأ فعلياً. والبداية مثّلها «قصف سياسي إعلامي» قلّ مثيله في التاريخ المعاصر، وسبق القصف الصاروخي في ما عرف بضربة «الصدمة والترويع». اللافت أن معسكر معارضي غزو العراق بدا مستسلماً، أمام حقيقة أن الحرب آتية لا ريب، ففي الصيف ذاته قال محللون فرنسيون (بلادهم كانت من أكبر المعارضين للحرب) إن «الولاياتالمتحدة عازمة على تنفيذ تهديدها بشن حرب لإطاحة نظام صدام». وذكر الصحافي الفرنسي البارز جان دانيال وفي أسبوعية «الإكسبرس» التي يرأس تحريرها، أن «الولاياتالمتحدة قد عقدت عزمها بطريقة لا رجعة فيها على شن الحرب ضد النظام الحاكم في العراق وأن هذه الحرب واقعة لا مفر منها». وفي التمهيد للحرب، كانت مدافع السياسة والإعلام في واشنطنولندن بدأت بإطلاق قذائفها بعيدة المدى، بطريقة تختلط فيها الوقائع بالأكاذيب المحبوكة على نحو جيد ومهلهل أيضاً. ففي بروكسيل كشف خبير عسكري في حلف شمال الأطلسي أن «الولاياتالمتحدة رصدت اتصالات لنظام صدام مع عدد من البلدان الأفريقية لإمداد بغداد بمرتزقة لحشدهم في الشمال للتصدي لدخول قوات أميركية برية». الخبير في تصريح الى صحيفة «الوطن» السعودية قال إن «النظام الحاكم في العراق يقدم وعوداً نفطية ومالية لهذه الدول مقابل إرسال المحاربين»، مشيراً إلى «أن طائرات التجسس الأميركية ستكثف طلعاتها وتصويرها المناطق المحتمل حدوث ثغرات فيها عبر الحدود العراقية لتسلل المرتزقة». هذا مثال لأخبار تختلط فيها الوقائع بالأكاذيب، فقد كُشف قبيل الحرب عن وصول حوالى ستة آلاف «متطوع» عربي للقتال إلى جانب القوات العراقية، لكن طائرات التجسس الأميركية لم تكشف «تسلل المرتزقة عبر الحدود العراقية»، لا بل إن الحدود ظلت مفتوحة أمام تدفق عشرات الآلاف من عناصر تنظيم «القاعدة» ومشتقاته من «المجموعات الجهادية» لسنوات عدة بعد سقوط النظام في بغداد في نيسان (أبريل) 2003. «المعلومات الدقيقة قبيل الغزو» كانت جزءاً من القصف السياسي والإعلامي، ففي منتصف آب (أغسطس) قال الرئيس الأميركي جورج بوش إنه سيبني أي قرار حول ما سيتخذه تجاه النظام الحاكم في العراق وما يراه أنه يمثل تهديداً لبلاده «وفق أحدث المعطيات الاستخبارية وأفضل السبل لحماية الولاياتالمتحدة وحلفائها». وقلل الرئيس الأميركي فى الوقت نفسه في حوار قصير مع الصحافيين فى مزرعته بولاية تكساس حيث يقضي عطلة عمل طويلة، من أهمية التحفظات التى يبديها أعضاء فى حزبه الجمهوري حيال شن الولاياتالمتحدة عملاً عسكرياً ضد حاكم بغداد. وقال: «أولاً، أدرك تلك (الاعتراضات الحزبية) وكما تعلمون أن هناك أشخاصاً على مقدار كبير من الذكاء يعربون عن آرائهم حول صدام حسين والعراق وأنا أستمع بحرص لما يقولونه. لكن، يجب ألا يكون هناك شك فى عقل أي شخص بأن صدام يتحدى العالم وأنه استخدم الغازات السامة ضد شعبه وأنه مصدر متاعب لبلدان الجوار وهو يمتلئ رغبة فى امتلاك أسلحة الدمار الشامل». رئيس خبراء نزع الأسلحة في الأممالمتحدة عضد الإعلان الأميركي بقوله، إن «صوراً التقطتها أقمار اصطناعية أظهرت منشآت جديدة في الكثير من المواقع النووية التي فتشتها الأممالمتحدة سابقاً في العراق». وأعلن الفرنسي جاك بوت الذي قام بعمليات تفتيش عدة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، التابعة للأمم المتحدة والمكلفة عمليات المراقبة في العراق، «هناك صور التقطتها أقمار اصطناعية تظهر أن منشآت أقيمت أو أعيد بناؤها في المواقع التي فتشناها سابقاً». ورفض بوت تحديد هذه المواقع ولكنه أوضح أنها تضم «منشآت نووية تستخدم في شكل مزدوج مدني وعسكري»، مشدداً على أن «عمليات التفتيش المفاجئة تشكل أفضل سلاح لردع النظام الحاكم في العراق عن السعي إلى صنع قنبلة نووية». و «أسلحة الدمار الشامل» كانت تعني فرق التفتيش الدولية للبحث عن تلك الأسلحة، وغالباً ما كانت بغداد تمنع تلك الفرق فتثير أزمة تلو أزمة منذ بدء عملها فعلياً في عام 1991، وصارت تلك الفرق والأزمات التي تثيرها بغداد معها جزءاً من يوميات سنوات الحصار وتشديد العقوبات، ولاحقاً ذريعة الحرب الأساسية، وقبيل الغزو رفضت واشنطن عرضاً قدمه نظام صدام باستئناف الحوار مع الأممالمتحدة، مشددة على أن «بغداد مطالبة بعمل واضح الآن». وقال غريغ سوليفان أحد الناطقين باسم الخارجية الأميركية إن «بلاده لا تأخذ عرض النظام العراقي على محمل الجد لأنها تلقت عروضاً مماثلة له من قبل من دون جدوى». وكان نائب الرئيس الجمهورية العراقي، طه ياسين رمضان قال في تصريحات متلفزة إن «نظامه مستعد لمناقشة عودة مفتشي الأممالمتحدة للأسلحة، شريطة ألا تكون المحادثات مسبوقة بأية شروط» مؤكداً أن «العراق يستعد للأسوأ إذا قررت واشنطن شن هجوم عليه». مرحلة القصف الثقيل وما لبث الإعلام الأميركي أولاً والبريطاني تالياً أن دخل مرحلة القصف بالذخيرة الثقيلة، ففي صيف 2002 ذاته، أوردت شبكة «سي أن أن» أن «النظام في العراق بدأ بتحريك ناقلات وصواريخ فيما يبدو استعداداً لأي عمل عسكري تقوم به الولاياتالمتحدة» موضحة في تقرير نقلاً عن مصادر عسكرية أميركية أن «قافلة من الناقلات دخلت مكاناً تشك الولاياتالمتحدة في أنه مكان لتصنيع الأسلحة البيولوجية لتتصاعد بذلك التكهنات حول الأنشطة التي تحدث هناك»، وأن «القافلة التي تم رصدها بواسطة أقمار اصطناعية للتجسس دخلت مجمعاً بالقرب من بغداد. وكان هذا الموقع قد تم قصفه خلال حرب الخليج عام 1991 ثم أعيد بناؤه وقام المفتشون الدوليين بتفقده». في الخبر أعلاه، تمثيل نموذجي للقصف السياسي والإعلامي، فثمة تحركات تتعلق بأسلحة دمار شامل (مكان لتصنيع الأسلحة البيولوجية ينشط العراق في إعادة بنائه)، وثمة تطبيق لما قاله الرئيس بوش عن استخدام أحدث المعطيات الاستخبارية كي يحدد موقفه النهائي حيال الحرب (أقمار اصطناعية للتجسس)، إلى جانب دخول الإعلام ككتيبة مؤثرة في الحرب (أكبر شبكة إخبارية في أميركا والعالم يخصها القادة العسكريون بما يريدون إيصاله كممهدات للحرب). في السياق ذاته، القائم على تسريب معلومات تختلط فيها الأكاذيب بالحقائق من أجل رسم صورة لعدو يبدو فاعلاً وقادراً على إلحاق الأذى بأميركا والغرب، انتظمت وسائل إعلام أميركية ودولية في بث تقرير يوضح أن «خبراء وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) تدرس في الوقت الراهن (خريف عام 2002) طائفة واسعة من الاحتمالات التي تتعلق بالرد المتوقع من صدام في حال بدء العمليات العسكرية ضد حكمه». أحد أبرز الاحتمالات التي خضعت للدراسة، بحث «ما إذا كان يمكن القوات العراقية القيام بضربة وقائية ضد مواقع وجود القوات الأميركية التي تتهيأ لمهاجمة بغداد وذلك إذا ما تبين لصدام بصفة قاطعة اقتراب موعد شن الهجوم على نظامه». مناقشة سيناريوات الضربة الوقائية العراقية، تناولت احتمال قيام سلطة بغداد بدفع ثلاثة فيالق عسكرية من الجنوب عبر الحدود الكويتية لمهاجمة مراكز تجمع القوات الأميركية في الكويت، واحتمال بدء هجوم مشابه على مواقع لقوات أميركية في الأردن، واحتمال قيام طيارين عراقيين يقودون طائرات محملة بقنابل كيماوية وبيولوجية بشن هجمات انتحارية ضد مواقع لقوات أميركية في مناطق أخرى، فضلاً عن احتمال «استخدام بغداد صواريخ تحمل رؤوساً غير تقليدية». وكي لا يبدو القصف السياسي والإعلامي، لوحده في ساحة التصعيد، كانت هناك أوائل أيلول (سبتمبر) 2002 أكبر عملية قصف على هدف عسكري تابع لقوات النظام الحاكم في العراق، وقال الجنرال جون روزا مساعد مدير عمليات رئاسة أركان الجيوش إن 12 مقاتلة أميركية ألقت 25 قنبلة على أهدافها. وكان هدف هذه الغارة مركز قيادة ومراقبة للدفاعات الجوية العراقي يبعد 380 كلم غرب بغداد وفي منطقة «إتش ثري»، وفق ما أفادت القيادة المركزية الأميركية. وأعلن الجنرال روزا من جهة أخرى أن «هذه العملية قد تبدو مفاجئة لأنها كانت تستهدف موقعاً في غرب البلاد بينما كانت الغارات السابقة تستهدف جنوب شرقي البلاد». انتشار اميركي - بريطاني في أيام الحرب، كانت القوات الخاصة الأميركية والبريطانية انتشرت بكثافة في المناطق الغربية من العراق (التي استهدفتها الضربة الأكبر قبل الحرب). الشراكة الأميركية - البريطانية، تواصلت في الضربات الجوية وفي التهويل من الخطر العراقي سياسياً وإعلامياً، فوزير الخارجية البريطاني جاك سترو قال إن «صبر العالم على العراق له نهاية وإنه يتعين أن يكون القيام بعمل عسكري ضده من بين البدائل». وذهب الوزير قبيل قمة بريطانية - أميركية (ستكون واحدة من ست استعداداً للحرب) إلى القول «لا يشكل أي نظام آخر غير النظام في العراق ذلك التهديد القوي لسلامة القانون الدولي. لا حكم إلا الذي في العراق لديه الرغبة نفسها في تصنيع أسلحة الدمار الشامل واستخدامها». وفي خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 أيلول وضع الرئيس جورج بوش شروطاً تتجاوز بكثير، قضية إعادة المفتشين إلى العراق، فوضع «حزمتين» من المطالب التي يتعين على بغداد تلبيتهما إذا أرادت تجنب ضربة عسكرية أميركية، الأولى تتعلق بتغيير طبيعة النظام سياسياً وعسكرياً، والثانية تتعلق بالتسليم الطوعي لبعض مكونات أسلحة الدمار التي أكدت وثائق الأممالمتحدة عام 1991 وجودها في العراق، وأخفق المراقبون الدوليون في العثور عليها بعد ذلك. تشديد الشروط الأميركية على هذا النحو جاء بعد أن درس مساعدو الرئيس بوش احتمال قيام بغداد بإعلان موافقتها على عودة المفتشين بصورة مفاجئة. وقد بدا لهؤلاء المساعدين أن إعلاناً من هذا النوع قد يضع الجهود الأميركية لإسقاط نظام صدام في موقف صعب، لذا قرر مساعدو الرئيس وضع شروط إضافية أكثر تشدداً بحيث يستحيل على بغداد قبولها، ما سيفتح الباب أمام موضوع تغيير النظام الذي سيصبح بعد ذلك مطلباً دولياً واسعاً. بلير يخاطب صدام عبر «مونت كارلو» وجه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، رسالة عبر إذاعة «مونت كارلو» إلى الرئيس العراقي صدام حسين، أكد فيها أن «نزع سلاح النظام الحاكم في بغداد سيتم بالقوة إذا لم يتعاون مع مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة». اختيار رئيس الحكومة البريطانية إذاعة «مونت كارلو» الفرنسية الناطقة بالعربية والتي أجرت مقابلة معه حول العراق، جاء كونها «الإذاعة الأكثر شعبية بين أفراد الشعب العراقي»، وفق مكتب رئيس الوزراء البريطاني الذي أكد أن «صدام شخصياً من متابعي الإذاعة التي اختارها بلير لتوجيه رسالته». وقال بلير في حديثة الإذاعي الموجه إلى صدام والعراقيين، إن «أسلحة صدام للدمار الشامل ستزال بالقوة ما لم يتم ذلك بالتعاون مع المراقبين. ومهمة صدام هي التعاون في شكل كامل مع المفتشين». وعلل بلير لجوءه للإذاعة بأنه يرغب في الحديث مع الناس في شكل مباشر «لأن في مثل هذه الظروف يظهر كثير من القصص الخيالية التي لا وجود لها في الحقيقة. «ومن بين تلك القصص، كما يقول بلير، أن «ما يحدث هو حرب بين المسيحيين والمسلمين بينما هذا غير حقيقي، وكذلك الحديث عن مواجهة بين الغرب والعرب، أو أن البترول هو السبب». أسلحة الدمار الشامل العراقية على الطريقة البريطانية، وصلت أقصى حدود «القصص الخيالية» التي حذر منها بلير في حديثه الإذاعي، حين روّع البريطانيين بقوله إن «صدام يمتلك وسائل لضرب لندن بأسلحة دمار شامل في غضون 45 دقيقة، إذا ما قرر ذلك».