يوشك الهجوم الذي شنّته فرنسا ضد الإسلاميين في شمال مالي على بلوغ مرحلته النهائية. فبعد أن أخرجت المحاربين الإسلاميين من المدن الرئيسة في تمبوكتو وغاو وكيدال، تحاصر القوات الفرنسية حالياً جبال إيفوغاس القريبة من الحدود الجزائرية والتي يتخذها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» والإسلاميون المسلحون الآخرون ملاذاً لهم. وفي أنحاء المنطقة، يقاوم الإسلاميون الهجمات ويردّون عليها عبر نصب الكمائن ومداهمات مسلحة مفاجئة في عمق المناطق التي استولى عليها الفرنسيون. وتهدّد حرب العصابات بأن تكون طويلة وصعبة. وكان لإطاحة القوى الغربية الرئيسَ الليبي معمّر القذافي تبعة غير متوقعة تمثّلت بعودة آلاف الرجال إلى ديارهم في مالي والنيجر ودول الساحل الأخرى، مع العلم أنّ معظمهم ينتمي إلى الطوارق وأنهم الأشخاص انفسهم الذين طوّعهم القذافي في قواته المسلحة. كما عاد معظمهم محمّلاً بالأسلحة التي استولى عليها من ترسانات القذافي. فتسبّب ذلك بنشوب الأزمة في مالي. في بداية عام 2012، قامت قوة من الطوارق تدعى «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» بمطاردة عناصر الجيش المالي وأعلنت الاستقلال في شمال مالي الذي يضاهي مساحته مساحة فرنسا. وأطلق الطوارق الذين ينتمون إلى عرق قديم يتكلم اللغة البربرية اسم «أزواد» على هذه المنطقة علماً أنّهم تمرّدوا مرات عدّة في الماضي ضد الحكومة في العاصمة باماكو، إلى أن تمّ سحقهم أو تخييب آمالهم نتيجة الوعود الفارغة بالتنمية. ولو أعطت باماكو مقداراً من الاستقلالية إلى الطوارق منذ زمن طويل، لكان يمكن تفادي هذا الغزو الإسلامي والحرب التي شُنّت لطردهم. ولم يكد الطوارق ينتهون من الاحتفال بالنصر حتى قامت المجموعات الإسلامية المقاتلة بطردهم بعد أن جابت صحارى الساحل وراحت تكسب لقمة عيشها من عمليات التهريب الواسعة النطاق ومن احتجاز الرهائن. وتعهّد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بتدمير الإسلاميين في شمال مالي – مع العلم أنّ فرنسا تحصل على مساعدة من الولايات المتحدّة ومن قوات دول غرب أفريقيا لتحقيق هذه المهمّة. كما أرست الولايات المتحدّة قاعدة جديدة للطائرات من دون طيّار في النيجر، وهي الدولة المجاورة لمالي من جهة الشرق، بهدف تزويد القوات الفرنسية بالمعلومات الاستخبارية ومراقبة الأخطار الإقليمية المحدقة وتدفّق الأسلحة من ليبيا. كما يستخدم الفرنسيون مطار النيجر لإرسال الرجال والعتاد إلى مالي. لم تتمّ بعد هزيمة الإسلاميين في مالي غير أنهم فارون حالياً. إلا أنّ سحقهم لن يحلّ مشكلة البلد الأساسية والقاضية بكيفية التعامل مع مطلب الطوارق بالحصول على الاستقلال في أرضهم التقليدية في الشمال. حين هاجمت المجموعات الإسلامية الحركة الوطنية لتحرير أزواد التابعة للطوارق، نشرت النيجر 5 آلاف جندي على حدودها مع مالي الممتدة على طول 800 كيلومتر ونجحت في منع المقاتلين الإسلاميين من الدخول إلى أرضها. كما أنّها أرسلت 680 رجلاً إلى القوة العسكرية لدول غرب أفريقيا التي انضمّت إلى فرنسا لدعمها في الجهود التي تبذلها في مالي. وبذل النيجر، الذي يعاني شعبه البالغ عدده 15 مليون نسمة من الفقر، كلّ ما في وسعه من أجل وقف تقدّم الإسلاميين. وعلى غرار ما حصل في مالي، توجّه عدد كبير من الشبان إلى العمل في ليبيا أو تطوّعوا في قوات القذافي. لكن، حين عادوا إلى ديارهم عقب إطاحة القذافي، لم يُسمح لهم بجلب أسلحتهم معهم. بدلاً من ذلك، جرّدهم جيش النيجر من السلاح عند الحدود. وأدى ذلك إلى اشتباكات عدة إلا أنّه ساهم في فرض الاستقرار في البلد. وعلى عكس مالي، نجحت النيجر في تنفيس مشكلة الطوارق من خلال إشراكهم في الحياة السياسية. ويشكّل الطوارق 10 في المئة من شعب النيجر. وفي عدد من الدول الأخرى، يقع الإسلاميون في ورطة. في مصر مثلاً، يناضل نظام الرئيس محمّد مرسي الذي تسيطر عليه جماعة «الإخوان المسلمين» لإنقاذ الدولة من الانهيار. وفي تونس، لا يزال حزب «النهضة» الإسلامي يدير دفّة الأمور إلا أنّه واجه ضغوطاً كبيرة نتيجة التظاهرات في الشارع التي أعقبت اغتيال شكري بلعيد وهو شخصية معارضة في 6 شباط (فبراير). واستقال رئيس الوزراء حمادي الجبالي الذي يعدّ الرجل الثاني في حزب «النهضة» من منصبه بعد أن فشل في إقناع حزبه بالسماح له بتشكيل حكومة تكنوقراط. وتمّ استبداله برجل إسلامي معتدل يدعى علي العريض الذي أمضى 14 سنة في سجون بن علي إلا أنّه يبدو عازماً على إبقاء العنف الجهادي بعيداً باعتباره الخطر الأكبر الذي يواجه تونس. وفي ليبيا، يقال إنّ الإسلاميين المتشددين موجودون في موقع دفاعي على رغم أنّ «أنصار الشريعة» - وهي الميليشيا الإسلامية التي يعتقد البعض أنها مسؤولة عن الهجوم الأخير الذي طاول البعثة الديبلوماسية الأميركية في بنغازي في شهر أيلول (الماضي) والذي أدّى إلى مقتل السفير كريس ستيفنز، لا تزال فاعلة في صفوف الشباب العاطلين من العمل. وتعدّ الجزائر المناهضة للإسلاميين إحدى الأنظمة الوطنية العربية العلمانية الأخيرة في العالم العربي. ويحمل جيشها آثار حرب أهلية قاسية دامت عشر سنوات ضد الإسلاميين وأدّت إلى مقتل حوالى 200 ألف شخص من عام 1990 لغاية 2000. وأعطت هذه المحنة الطويلة سلطات كبيرة لدائرة الاستخبارات والأمن في البلد برئاسة محمد الأمين مدين. وحين استولت مجموعة إسلامية في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي على منشأة غاز رئيسة في صحراء الجزائر الجنوبية واحتجزت عدداً كبيراً من الرهائن، سارعت القوى الخاصة الجزائرية إلى مطاردة المعتدين وقتلت معظمهم. إلا أنّ عدداً كبيراً من الرهائن قضى نحبه أيضاً. وحين يتوقّف القتال في شمال مالي، يجدر بالحكومة في باماكو أن تقرّر ما الذي يجب فعله حيال الطوارق وكيفية تلبية توقهم إلى الاستقلال. وفي مقابلة مع صحيفة «الموند» الفرنسية في 22 شباط، أعلن رئيس الوزراء الموقت ديانغو سيسوكو معارضته الشديدة لاستقلال الطوارق وللتطرّف الإسلامي. وقال «من المستحيل الحديث عن الفيديرالية» مع الطوارق في الشمال. ورفض كلّ نقاش مع «الأشخاص الذين يتطلعون إلى تقسيم الأرض». وذهب بعيداً إلى حدّ القول إنه منفتح على الحوار حول التنمية المحلية واللامركزية. لكن، من غير المرجّح أن يرضي ذلك الطوارق. ويعدّ غياب الحكومة المركزية القوية أو الموحدة في باماكو إحدى المشاكل الكثيرة التي تواجهها مالي. فالسلطة مقسّمة بين النقيب أمادو هايا سانوغو وهو ضابط متمرّد أطاح حكومة رئيس الوزراء شيخ موديبو ديارا خلال انقلاب في السنة الماضية وبين رئيس الوزراء ديانغو سيسوكو الذي تولى منصبه في 11 كانون الأوّل (ديسبمر) 2012. ويعدّ سانوغو الأقوى بين الاثنين. فهو يُحكم السيطرة على وزارة الدفاع وعلى أجهزة الاستخبارات كما أوكلت إليه مهمّة الإشراف على إصلاح الشرطة وأجهزة الأمن التي يجريها الرئيس الموقت محمدو إيسوفو. وفيما يدعم الرئيس ورئيس الوزراء التحرّك الفرنسي ضد الإسلاميين، يبدو النقيب سانوغو على علاقة سيئة مع الفرنسيين وهو يعارض التدخّل الأجنبي. بطريقة أو بأخرى، تمّت هزيمة الإسلاميين في شمال أفريقيا والساحل إلا أنّ المساعدة الدولية الكبيرة والتنمية الاقتصادية الفعلية من شأنها إبقاؤهم بعيدين على الدوام. والحقيقة هي أنّ أفضل طريقة للدفاع في وجه الإسلاميين هي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولا تأتي الأخطار الحقيقية المفروضة على المنطقة من الإسلاميين بل من البطالة والفقر وعمليات السلب وتوافر الأسلحة وعجز الحكومات عن ضمان التنمية والأمن في بلدها. * كاتب بريطاني مختص في شؤون الشرق الأوسط