الأرجح أن تقود هذه الأمور إلى ضرورة الالتفات إلى نقاش غائب فعلياً عن الحريّة، خصوصاً حريّة التفكير وهو حجر الأساس في نهوض البحث العلمي. ومهما قيل في التصالح بين جوانب من الدين من جهة والعلوم من جهة ثانية، فإن التجربة الإنسانية الواسعة تشير إلى أن حريّة الفكر، وأساسها ثقافة الحريّة، شرط أساسي لتقدّم العلوم، الذي يندرج في سياق تطوّر المجتمعات وتقدّمها وتنميتها ورقيها. يصعب غض الطرف عن تيارات إسلامية واسعة وصارمة التشدّد ومتطرفة التعصب، ما يجعل من الصعب عليها أن تأتلِف مع حريّة الفكر. هناك أمثلة مؤلمة تأتي من الحاضر. لا يُنسَ أن تفسيراً ضيّقاً متعصباً للدين الإسلامي، لم يتردد في مناصبة تمثال ل «بوذا» العداء، ففجّره واستجرّت على تاريخ الإسلام عداءً، كان بغنى عنه. عاشت أفغانستان الحضارة العربية- الإسلامية، ولم تصدر فتوى بهدم ذلك التمثال! لكن المتشددين المعاصرين، لم يطيقوا الفن المنقوش على حجر، ففجروه. مأساة «حرب الرؤوس»! عاش الشاعر- الفيلسوف أبو العلاء المعري في ظلال الحضارة العربية- الإسلامية، مُكرّماً. لم يُكفّر صاحب «رسالة الغفران» التي تشتهر بأنها سبقت بقرون، عملاً ممجداً في الغرب هو «الكوميديا الإلهية» التي ألّفها الشاعر الإيطالي دانتي أليغري. لم يُقطَع رأسه إلا على أيدي غُلاة السلفيّة من أصحاب التفاسير الأشد تطرّفاً للإسلام. وعمد هؤلاء إلى تخريب الجملة المنقوشة أسفل تمثاله في معرة النعمان، التي تقول «شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء»! ربما لا تطيق بعض رؤوسهم الفلسفة بما تقتضيه من نقاش وحوار وجدل وآراء متعاكسة ومتنوّعة، بل يصرّ بعضهم على شعار «لا فلسفة في الإسلام». ألم تكن أصوات مفكريهم أيضاً متوجّسة دوماً من الشعر؟ أليست تفسيراتهم الضيّقة للنصوص هي التي أطاحت «رؤوس» طه حسين والمعري، بل «ألبست» تمثالاً لأم كلثوم نقاباً، وهو أمر تختلط فيه الكوميديا بالتراجيديا البائسة؟ ازدهرت العلوم في الحضارة العربية- الإسلامية، عندما كانت نقاشات الفلسفة والفقة عن الحرية والمعرفة ومقاصد الشريعة والعلاقات بين الأديان، في ذروتها. وركدت تلك العلوم بعد وقت ليس بمتطاول من ركود حركة الفكر والفلسفة في تلك الحضارة، ولم يتأخر عن ذلك كله انطلاق المسار الذي أدى إلى سقوط الامبراطورية العثمانية. أين هي هذه النقاشات الآن، في ظل صعود عقول ضيّقة الأفق لم تستطع النقاش مع ما قاله طه حسين قبل عقود، عن علاقة الدين بمعطيات المجتمعات التي تخاطبها نصوصه ورسالته، فقضوا على فكره بصورة مُكثّفة الرمزيّة: إزالة الرأس (وفيه الدماغ والفكر)، حتى لو كان مجرد حجر؟ كيف يمكن تصوّر أن تطرّفاً متعصبّاً وضيّق الأفق على هذا النحو، بإمكانه أن يقود نهضة العلوم في القرن ال 21، عدا أن يكون رافعة فعلية لنهضة أساسها الحريّة؟