يوم الخميس المقبل (28 الجاري) ستحط مروحية داخل حرم الفاتيكان لتنقل البابا بنديكتوس السادس عشر إلى قلعة «غاندولفو»، حيث يقيم موقتاً إلى حين الانتهاء من تأثيث الدير المعدّ لقضاء فترة تقاعده. يوم الأربعاء سيقام بشكل استثنائي قداس في كاتدرائية القديس بطرس لأنها تتسع لعدد ضخم من الكرادلة. وبعد ذلك القداس يودع البابا جموع المحتشدين، مخلياً الساحة لخلفه المجهول المرجح انتخابه قبل عيد الفصح في 31 آذار (مارس) المقبل. ومن المتوقع أن تصبح سدة البابوية خلال الفترة الانتقالية في عهدة الكاردينال بيرتوني، أحد المرشحين لخلافة البابا المستقيل. ويبدو أن استقالة البابا خلقت ردود فعل متباينة بدليل أن الكنيسة الكاثوليكية بدأت في مراجعة المرسوم البابوي الذي يُجيز استقالة الحبر الأعظم. أي المرسوم الذي وضعه عام 1294 البابا سلستين الخامس الذي استقال عقب تنصيبه بخمسة أشهر. وبما أن استقالة البابا تشبه استقالة الملوك، أي من الصعب أن تتكرر، فان ما شرّعه البابا سلستين الخامس لا يُعتبر قراراً ملزماً. وعليه يرى خبراء شؤون الفاتيكان أن هناك ميلاً لتحديد ولاية البابا، علماً أن استقالة بنديكتوس كانت الأولى منذ ستمئة سنة. المونسنيور غيورغ راتزينغر نفى أن يكون شقيقه أقدم على الاستقالة نتيجة مؤامرة ضده، بحسب ما ذكرت صحيفة «لا ريبوبليكا» العلمانية، التي ادّعت أنه تنحى لمنع استفحال الخلاف بين رئيس حكومة الفاتيكان بيرتوني وخصومه النافذين. وقال أن قرار الاستقالة اتخذ بعد معاناة طويلة أضعفت قوته الجسدية، الأمر الذي أقنعه بضرورة انتخاب شخصية أكثر شباباً يمكنها التعامل مع المشكلات الكثيرة في زمن متغير. يقول المراقبون إن البابا المستقيل خلق مشكلة إدارية بسبب إطالة الفترة الانتقالية إلى 17 يوماً بدلاً من إعلان تنحيه الفوري. ذلك أنه أعطى لمئة وعشرين كاردينالاً يحق لهم التصويت، كونهم لم يتجاوزوا الثمانين من العمر... الفرصة الكافية لممارسة ضغوطهم. وحول موضوع التدخل، كتب ألبيرتو ميلوني، الأستاذ المحاضر في تاريخ الكاثوليكية، أن الكرادلة المسنين الذين لا يحق لهم التصويت سيعملون من وراء الستار لمصلحة مرشحيهم المفضلين. واللافت في هذا السياق أن جميع الكرادلة، من دون استثناء، هم من اختيار البابا يوحنا بولس الثاني أو البابا بنديكتوس، الأمر الذي يعطي الانطباع بأن موعد تنفيذ الاستقالة اختير بعناية من أجل تأثير البابا المتنحي على انتقاء خلفه. غوليانو فيرارا، رئيس تحرير صحيفة «الفوغليو»، كسب شهرة واسعة لأنه توقع استقالة بنديكتوس قبل أكثر من سنة. وهو يرى أن البابا قد يكون عقد صفقة مع خلفه بهدف تأمين الالتزام بخطه المحافظ الداعي إلى تنظيف سمعة الكنيسة الكاثوليكية. علماً أن هذه السمعة السيئة ربما ساهمت في تشجيعه على اتخاذ قرار الاستقالة. صحيح أن قدرته الذهنية والجسدية لم تعد تحتمل أعباء كنيسة يتبعها أكثر من بليون ومئتي مليون نسمة... ولكن الصحيح أيضاً أن ولايته (7 سنوات) كانت مليئة بالمنغصات والمتاعب. ففي مطلع عهده، واجهته فضائح الانتهاكات بحق الأطفال. ثم انصرف مدة طويلة في إجراء تحقيقات تتعلق بانتهاكات في إرلندا أدّت إلى استقالة وإقالة عدد من الأساقفة. وفي السنة الماضية، وقعت فضيحة داخل إدارته عندما سرَّب كبير معاونيه وثائق تزعم وجود فساد في معاملات الفاتيكان التجارية. وقيل في حينه أن أحد الكرادلة شجع الموظف الإداري على تسريب تلك الوثائق بهدف تلويث سمعة الحبر الأعظم ودفعه إلى الاستقالة. روبرت ميكنز، مراسل مجلة «ذي تابلت» في روما، كتب يقول إن الفاتيكان لم يشهد في تاريخه الطويل انتخاباً لبابا جديد في الوقت الذي ما زال سلفه على قيد الحياة. وادعى في مقالته أن بنديكتوس السادس عشر اختار أثناء ولايته 28 كاردينالاً يعتقد أن ستة منهم مؤهلون لخلافته. وبين الأسماء المرشحة للدور الكبير في أخطر الظروف وأكثرها اضطراباً: الإيطالي أنجيلو سكولا (71 سنة) كبير أساقفة ميلانو. وهو منصب مؤثر، خصوصاً أنه يهتم بتنشيط الحوار المسيحي-الإسلامي، الموضوع الذي شغل الفاتيكان منذ الستينات. أي منذ باشر معروف الدواليبي اتصالاته باسم المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز، والتي أثمرت سلسلة مؤتمرات مشتركة. ولكن هوية سكولا الإيطالية قد تكون العائق في طريق اختياره، على اعتبار أن الفاتيكان حرص منذ مدة على انتقاء أحبار من دول أخرى. الاسم الثاني في هذه القائمة هو الأميركي تيموثي دولان (62 سنة) كبير أساقفة نيويورك منذ 2009. ومع أنه يتحلى بصفة الحيوية والنشاط الدائمين، إلا أن خصومه يأخذون عليه انتماءه إلى دولة عظمى قد تؤثر سياستها في دوره. الاسم الثالث في هذه المعركة هو البرازيلي أوديلو بيدرو شيرر (63 سنة) رئيس أساقفة ساو باولو. ويعتبره المراقبون من أقوى المرشحين كونه يمثل أكبر جالية كاثوليكية في أميركا اللاتينية. الاسم الرابع هو الكاردينال الغاني بيتر تيركسون (64 سنة) الذي يُصنّف في طليعة المرشحين الأفارقة. وقد أعطاه منصبه، كرئيس لمكتب العدل والسلام في الفاتيكان، قوة إضافية يمكن أن يوظفها لكسب المزيد من الأصوات داخل مجلس الكرادلة. ويبدو من تركيز الصحف العالمية - خصوصاً الأوروبية منها - أن المرشح الغاني سيكون بين الأسماء المدعومة من غالبية الدول الأفريقية. ويلاحظ الكاتب ريتشارد داودين، مدير الجمعية الأفريقية ورئيس تحرير «كاثوليك هيرالد»، أن الدين في القارة الأفريقية أصبح جزءاً من الحياة اليومية بحيث يدخل في السياسة والرياضة وكل نشاط تقريباً. لذلك ازدادت أعداد الكنائس في بلدان هذه القارة الفتية بشكل مذهل. كما ازداد إلى جانبها عدد المدارس ومراكز التبشير، وعيادات الصحة، والمستوصفات النقالة. ويذكر المراسلون لدى القارة الأفريقية أن الحروب الأهلية المتواصلة وفرت للكنيسة الكاثوليكية ظروف تقديم الخدمات الإنسانية بواسطة الرهبان والراهبات. وقد قتِلَ عدد كبير منهم أثناء الأزمات والمذابح الجماعية. تقارير الأبحاث واستقصاءات الرأي تشير إلى حقائق غير معروفة لدى الرأي العام. والحقيقة الدامغة تشير إلى تواصل ارتفاع أعداد الكاثوليك في أفريقيا من 55 مليون نسمة عام 1978 إلى 150 مليون نسمة هذه السنة. وبناء على هذه الإحصاءات فإن العدد المتوقع بعد عشر سنوات سيصل إلى 230 مليون نسمة. وبالمقارنة مع ما يحصل في الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي هبط فيها عدد المنخرطين في سلك الكهنوت بنسبة عشرة في المئة، فإن هذا العدد ارتفع في أفريقيا بنسبة 14 في المئة. وهناك مَنْ يعزو ارتفاع هذه النسبة إلى قرار الفاتيكان بالسماح للأفريقي بتعدد الزوجات، أي الانسجام مع ثقافته القبلية، ورفض الكنيسة التشدد بعزوبية الكهنة. في ضوء هذه المتغيرات، بدأ البحث جدياً في اختيار بابا أفريقي من بين 16 كاردينالاً جاؤوا من القارة السوداء. والأبرز بينهم الغاني بيتر تيركسون والنيجيري فرانسيس ارينز. ومثل هذا الخيار، كما يقول دُعاته، يجدد شباب المسيحية في قارة نقل إليها الإسلام السياسي والبوذية والهندوسية كل مشاكل القرن الواحد والعشرين. ولم تكن أحداث مالي وما رافقها من حصار أكثر من حركة التفاف على أوروبا المسيحية. وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي إلى التدخل بهدف وقف زحف «القاعدة» ومنعها من الانتصار، وتطويق أوروبا المتهافتة على منافسة الصين في بقعة غنية بالنفط والغاز والمعادن واليورانيوم. في حديثه إلى صحيفة «دايلي تلغراف»، شدد الكاردينال الغاني بيتر تيركسون على أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه في حال انتُخِب خلفاً للبابا بنديكتوس. وقال إن أوروبا العلمانية تناست مسؤوليتها الدينية، وغرقت في أوحال الفضائح الجنسية، بحيث تضاءل عدد سكانها وانتقلت مركزية دورها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا. في ختام ولايته قال البابا الألماني، إنه تعلم الكثير من السنوات القليلة التي مارس خلالها مسؤولية تقويم الاعوجاج في حاضرة الفاتيكان. وكان انتخابه، كأول بابا ألماني منذ ألف سنة، قد فتح أمامه مسألة الإيمان وضرورة المحافظة على تقاليد الكنيسة وقوانينها. كما أقنعته زيارته للبنان بأن تعايش الإسلام والمسيحية يعبّد الطريق أمام التضامن واستقرار المجتمعات البشرية. علماً أن زيارته الأولى لبلاده ألمانيا عقب تنصيبه في البابوية لم تكن موفقة على الإطلاق. ذلك أنه ألقى محاضرة في جامعة ريجنسبرغ حول المسيحية والإسلام قوبلت بالانتقاد اللاذع من قبل القيادات الدينية الإسلامية. كما قابلها الشارع الإسلامي في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا بأعمال العنف وتظاهرات الاستنكار. وبعد احتجاجات تخللتها هجمات على كنائس في عواصم عربية، ومقتل راهبة في الصومال، أعرب البابا عن أسفه لأي سوء فهم نتج من خطبته. والسبب أنه اقتبس عن مجلة، يصدرها في ألمانيا الأب اللبناني تيودور خوري، تروي جزءاً من حوار دار بين إمبراطور بيزنطي في القرن الرابع عشر وأحد الأئمة. ويزعم الإمبراطور أنه خرج من اللقاء مقتنعاً بأن الإسلام لم ينتشر إلا بحدّ السيف. ومع أن البابا لم يعلن تبنيه لمزاعم الإمبراطور، إلا أن اقتباسه لهذه الحادثة بالذات، أوحى للكثيرين بأنه يتكئ في قناعته على ذلك الحوار. علماً بأنه تراجع واعتذر وطلب الصفح. سئل البابا بنديكتوس ال 16 عن أفضل منجزاته، فقال إنه يعتبر كتابه الصادر بثلاثة مجلدات حول «يسوع الناصري» من أهم أعماله حيال الدور الذي لعبه، أو الكنيسة التي مثلها، منذ ربيع عام 2005. وهو يرى في دور سلفه البابا يوحنا بولس الثاني النموذج لكل حَبر ناجح يعرف كيف يوفِّق بين الدين والسياسة. وفي رأيه، أن البابا يوحنا لم يُنصفه المؤرخون، ولم يُعطَ حقه من قِبَل أساتذة اللاهوت الكاثوليكي حول السلاح الماضي الذي استخدمه لهدم المنظومة الاشتراكية المُلحدة. وكان بهذا المُعطى يرد على سؤال ستالين الذي وجهه إلى تشرتشل: تقول إن البابا معكم. كم يملك البابا من دبابات؟ أجابه تشرشل: البابا لا يملك دبابات... بل كلمات! * كاتب وصحافي لبناني