عاش بنديكتوس السادس عشر بأبويته القصيرة (7 سنوات) في وهج بابوية سلفه يوحنا بولس الثاني الطويلة (27 سنة). كان مساعداً رئيساً له، منذ تعيينه رئيس لمجمع العقيدة والإيمان وحتى انتخابه إلى سدة البابوية في 2005، وواكبه في حملته العالمية التي أسهمت في تغيير صورة العالم السياسي التي انتجتها ثورات القرن العشرين وحروبه. وبعد وفاة السلف كان بين أبرز القرارات التي اتخذها الخلف فتح دعوى تطويب البابا الراحل قديساً. لا يعني هذا أن البابا المستقيل مطلع الأسبوع بقي في جلباب يوحنا بولس السادس فاقداً المبادرة ومفتقداً بصمة خاصة يخلفها في دولة الفاتيكان. على العكس، فقد ترك بصمات مؤثرة وبارزة طبعت دور خليفة القديس بطرس في مطلع القرن الواحد والعشرين وستستمر هذه البصمات في فعلها إلى مدى طويل طالما أن القضايا التي تصدى لها بينيديكتوس حية وراهنة. كانت مناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة قبل أقل من شهر ونصف الشهر محطة لإعلان مواقف تلخص رؤية رئيس الكنيسة الكاثوليكية لأزمات العالم الرئيسة وكيفية معالجتها. وقف في عيد الميلاد على شرفة كاتدرائية القديس بطرس ودعا إلى وقف إراقة الدماء في سورية. قال: «أوجه نداء من أجل وقف إراقة الدماء وتسهيل الإغاثة للنازحين واللاجئين والبحث من خلال الحوار عن حل سياسي...». وعبر للمصريين عن قلقه إزاء تطور الأوضاع في بلدهم مطالباً «باحترام حرية وكرامة كل شخص». وشدد على الفلسطينيين والإسرائيليين أن «يسلكوا بتصميم طريق المفاوضات». في مناسبة رأس السنة الميلادية حذر بينيديكتوس من أن العالم واقع تحت تهديد الرأسمالية الجامحة والإرهاب والجريمة، مندداً «ببؤر التوتر والصراع الناجم عن تزايد الأمثلة على عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء(...)» و «بتفشي عقلية الأنانية والفردية التي تعبر عن نفسها أيضاً في رأسمالية لا تخضع لقواعد وأشكال مختلفة من الإرهاب والجريمة...». انتقل الفاتيكان سريعاً من ما كان يعتبرها تهديدات القرن الماضي (الشيوعية مثلاً...) إلى مواجهة تهديدات الحاضر وفي مقدمها «الرأسمالية الجامحة» و «الإرهاب والجريمة». وفي هذا الطريق سار البابا المستقيل متميزاً ومكملاً ما بدأه سلفه. اختار للمواجهة الجديدة تنقية للعمل الكنسي بحد ذاته، لكن أسلحته الأساسية كانت الانفتاح على الآخرين بدءاً من الكنيسة الأرثوذكسية وصولاً إلى الديانات التوحيدية الأخرى. وكانت بارزة الزيارة التي قام بها الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى الفاتيكان وتعاون الأخير مع مبادرة خادم الحرمين في موضوع مركز حوار الأديان واجتماعاته الأخيرة في فيينا. وفي مسار الانفتاح هذا جاء السينودس من أجل مسيحيي الشرق ليسجل أبرز إنجازات البابا في ظرف تخطت فيه الأوضاع العالمية والمشرقية حدود الحاجات الرعوية التقليدية والبديهية إلى ضرورات الحضور الفاعل والمؤثر. كانت الضغوط على مسيحيي العراق ومصر وفلسطين وتجربة لبنان في الربع الأخير من القرن الماضي وراء عقد السينودس، ذلك المؤتمر الذي خاض عميقاً في دور المسيحيين كمواطنين إلى جانب مواطنيهم المسلمين من أبناء بلدان المنطقة، ثم جاءت الأحداث المتتالية في مصر وسورية لتضع التوجهات الكنسية على المحك في امتحان يومي لأسئلة وأجوبة، ستكشف إصراراً فاتيكانياً على مواصلة نهج الانفتاح والحضور إلى جانب شعوب توحدها الآمال والكوارث، وهو نهج يتولاه سفراء البابا مباشرة كما تتولى تطبيقه الكنائس المحلية. ينبغي، في السياق، أن تُفهم مشاركة البطريرك بشارة الراعي في تنصيب البطريرك الأرثوذكسي يوحنا العاشر اليازجي في دمشق بوصفها تجسيداً لسياسة الانفتاح والحضور الفاتيكانية الآنفة الذكر، وهي سياسة لا تحض على الحضور فقط، بل تعطي الكنائس الشرقية أدواراً وهوامش، ولأركانها، خصوصا الكنيسة المارونية، صلاحيات وحضوراً روحياً يتخطى حدود إقليم انتشارها. وفي جولات البطريرك الراعي بين الهند ومصر والعراق إشارات إلى الموقع الجديد الذي تحتله الكنائس المشرقية الكاثوليكية في عملية توزيع المهام الفاتيكانية، كما سيكون للتوأمة المنتظرة بين الكنيسة الروسية والكنيسة المارونية في الأشهر القليلة المقبلة أهمية خاصة كنتاج بارز للسياسة الفاتيكانية في ترجمتها اللبنانية المشرقية. منذ سنتين أصبحت العربية لغة رسمية في الفاتيكان. كان القرار تتويجاً للاهتمام الفاتيكاني بمسيحيي المشرق. البعض ذهب إلى القول إن البابا المقبل سيكون عربياً وتوقف أمام أسماء أربعة كرادلة هم نصرالله صفير وبشارة الراعي من لبنان، أنطون نجيب بطريرك الأقباط الكاثوليك من مصر وعمانوئيل دلي بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية من العراق. الأربعة هم من بين 120 كاردينالاً سينتخبون خليفة لبينيديكتوس في آذار (مارس) المقبل، فهل يفعلها آباء الكنيسة ويتوجون اهتمامهم المشرقي بانتخاب بابا من الشرق؟. * صحافي من أسرة «الحياة»