على طريق الكورنيش، تنطلق الحافلة. خيوط النور الأولى تتسرب هادئة، وتميط لثام الظلام في خلسة من المدينة. وحدها الحافلة الصفراء تهدر في الطريق. في الاتجاه ذاته، حلّقت بضعة نوارس خفيضة فوق الماء: بقع بيضاء ناصعة تلمع في ما تبقى من العتمة. يتوقف هدير المحرك. *** ينزل الركاب في بزاتهم الصفر. كالحة وجوهم. مطرقين، يمضون، حتى لتخالهم متهمين يُقتادون إلى قاعة المحكمة... لا يكاد الرفيق يحادث رفيقه. فوق صفحة الماء، أرسل نورس شقشقة جذلى، وانحنى على الماء وغَرَفَ سمكة، ثم حلق مجدداً، واقترب من نورسة غنوج وناولها الصيد في منقارها، وربما أصاب قبلة. هكذا رحلة استرزاق النوارس... نزهة صباحية، أما الصيد فيصاب عرضاً. *** ينزل العمال في طابور طويل، وقد شدّ كل واحد منهم على وعاء الطعام، وفي انضباط عسكري يتوجهون إلى هيكل الاسمنت والحديد الذي ينتصب شامخاً وظالماً فوق هاماتهم، وهناك يختفون، وقد توزعتهم طوابقه. *** رائع منظر الشروق من الطابق العشرين: شعاع الشمس يشق كسيخ مُحمّى صفحة الخليج، قبل أن تحتضنه المياه بوداعتها وتبدده في حنان ... لكن «الرفيق» لا يبالي. تحلق النوارس أمام ناظريه في البعيد، يراها وهي تلهو وتتطارد بدلال في الهواء. يرى الشمس تتلامع فوق الماء، لكنه لا يهتم لكل هذه السكينة والجمال. لوهلة، يتذكر زوجته هناك في نيبال وبنغلاديش وبلاد أخرى، لكن صوت الحديد من حوله سرعان ما يعيده إلى حاضره، فينهمك في العمل مجدداً... يطرق الفولاذ بمطرقته وينشر الخشب بمنشاره، ويمزّق صمت آخر الليل ويملأ ذهنه بالضجيج... لينسى. هؤلاء هم «الرفاق». بمئات الألوف هم، ومع ذلك لا يزاحمونك في الطرق والشوارع. لتلقاهم عليك أن تستيقظ باكراً جداً. ستراهم حينها ببزاتهم الصفر يمضون خبباً في غبش فجر يلوح، وفي العيون بقية من نعاس اقتلعهم منه منبه صارم لا يخطئ، هو آخر ليل من خرجوا لتوهم من الديسكو. لن تصادفهم جموعاً إلا يوم جمعة، يوم الراحة الوحيد. حينها سيزاحمونك على كورنيش المدينة. ليس للنزهة يأتون، فهذه العضلات،التي لوّحتها شموس الخليج خلقت لتنتج فقط. *** هنا وهناك، يلتقط «الرفيق» لرفيقه صورة للذكرى أمام البحر. في الخلفية، أبراج زجاجية يتلامع نور الشمس على واجهاتها. يعرفونها جيداً هذه الأبراج، فقد تقرّت أناملهم حجارتها وحديدها وخشبها، لكنها بالنسبة اليهم لا تصلح إلا بطاقات بريد تؤرخ، فقط لا غير، لمرورهم على هذه الأرض. لا مناص من أن تتذكرهم، لأنهم سيسدون عليك الطريق لكثرتهم، وأنت تذرع الكورنيش متجولاً أو متريضاً، وسيحاصرك حينها، إن كنت تأنف منه، عرق الكادحين، فيذكّر حاسة الشم النائمة لديك برائحة التعب والألم البشريين. قد تصادفهم أيضاً على مداخل «سوق واقف»... على المداخل فقط، فأزقة السوق العتيقة ونزهات الأصيل الحالمة ممنوعة على الوجوه الكالحة تلك... حتى لا تفسد على السادة «مُودَ» نهاية الأسبوع. حينها فقط، ستتذكر أن هذه الآلاف المؤلفة تسكن المدينة معك، الآن وهنا، ومع ذلك فإنك لا تراها. *** ارتفعت الطائرة عن مدرج المطار. خلت لوهلة وأنا أودع من نافذتي المدينة التي تلألأت في أصيل الغروب، أنني أرى أحدهم على الكورنيش. بدا مطرق الرأس هناك في البعيد. ارتفعت الطائرة أكثر، وغاصت في زرقة السماء المشوبة بأرجوان المغيب، وتضاءل خيال «الرفيق»، حتى كاد يتلاشى. هل ارتفعت يدي ملوحة له؟ لا بل ارتفعت لتمسك بالكأس التي امتدت بها يد المضيفة. أخرجتني المضيفة من شرودي، وهي تسألني: عصير تفاح أم برتقال؟ سحبت الستارة، فاختفى طيف «الرفيق» من خيالي، وقلت وأنا أمني النفس برحلة لذيذة في صحبة المضيفة الجميلة: Orange, please! Thank you.