مفردة «الرحيل» التي تعنون كتاب السعودي محمد حسن علوان (عن دار الساقي- بيروت 2014) تدفع بذاكرتنا الى استحضار الشعر والروايات في مضمار الرحيل والترحّل، والهجر، ودموع اللحظات المنسوجة على وقع الفراق، لنكتشف صفحة تلو صفحة (270 صفحة بما فيها المراجع باللغة الإنكليزية والتي ربما اقتضتها ظروف دراسة علوان في أوتاوا في كندا)، كمّاً هائلاً من النظريات المتعلقة بعوامل الرحيل وأسبابه، وبلغة علمية جافة. والرحيل كلمة وسط انتقاها المؤلف بين مفردتَي «التنقلية» و»الهجرة»، نظراً إلى تعدد تعريفات الرحيل في الدراسات الأكاديمية، وتبعاً للاختصاص المتوزّع ما بين التشريعات القانونية، الاقتصادية، علم الاجتماع، العوامل الثقافية، وعلم النفس إلخ. والكتاب، كما يذكر علوان «لا يبحث في غرائز الإنسان الخبيئة في عقله أو بطنه أو قلبه، بل في غريزة أخرى تختبئ تحت قدميه: غريزة الرحيل» (ص10)، فينقل عن المنظمة الدولية للهجرة «إن في العالم اليوم أكثر من مئتي مليون مهاجر، وهذا يعني أنه لو قدّر لهم أن يجتمعوا في دولة مستقلة لكانت دولتهم خامس أكبر دولة في العالم متخطّية بذلك البرازيل» (ص11).( كيف تناسى الصين وأندونيسيا على سبيل المثال؟). ثمة توضيحات وتواريخ في مآسي البشرية لم يتطرق إليها المؤلف بعد طرحه السؤال لماذا يرحل البشر؟ فهل هذا النوع من الرحيل حصل بمحض إرادتهم؟ عرض علوان النظريّات العلمية التي ناقشت ظاهرة الرحيل «فاشتمل الكتاب على تاريخ كل نظرية وسياقها البحثي، وإسهامها في دراسات الرحيل، وأوجه قوتها وقصورها»، ليخلص إلى» تناقضات النتائج في الدراسات التطبيقية، فأصبحت نظرية الرحيل أشبه بوعاء يحوي خليطاً من النظريات المختلفة التي لا تنسجم مع بعضها بعضاً ولا تكمل بعضها بعضاً» (ص240)، معللاً السبب، بمواجهة الأبحاث التطبيقية في دراسات الرحيل مشكلتين من حيث البيانات التي تحلّلها: الجودة والكميّة» فالبيانات ذات الجودة العالية نادرة، والبيانات ذات الوفرة الكمية منخفضة الجودة» (ص233). من حقبة الخروج من أفريقيا يبدأ علوان عرضه لتاريخ الرحيل البشري، ولكن من زاوية إنتروبولوجية وليس بيولوجية «لفصلها عن نظرية داروين» (ص23)، متجنّباً بذلك الجدل الديني حول هذه النظريّة، ليدخل في متاهة القفز فوق محطات تاريخية قاسية في الترحيل والرحيل والاقتلاع بمعزل عن غريزية الإنسان في الرحيل لأسباب لا تعدُّ ولا تحصى. ولو تسنّى للمؤلف توزيع استمارات على المئتي مليون الذين أشار إليهم لربما أتت مئتا مليون إجابة مختلفة. تحت عنوان «نشوء الحضارات» تبدأ حكاية «تشكّل هويّات البشر الأكثر تعقيداً من ثقافية ودينية وعرقية وقومية، وبالتالي تزايدت معها عوامل النزاع والحروب وما يلحق بها من هجرات ورحيل»، فيشير إلى أن الحضارة السومريّة كانت الأولى نشوءاً في بلاد ما بين النهرين، وأن التراث التلمودي يورد أن تهجير اليهود القسري من أرض كنعان تمّ في ذلك العهد، ليقفز إلى ما وصفه ب «الرحيل الجبري الذي مورس في البلدان الشيوعية في العصر الحديث» (ص36)، أما «أشهر الحالات فكانت إجلاء اليهود من إسبانيا بعد سقوط الحكم الإسلامي» (ص37). أليس غريباً ألاّ يشير المؤلف إلى حضارة الفراعنة والصين القديمة على سبيل المثال، وإلى محاكم التفتيش في إسبانيا بحق المسلمين بعد سقوط حكمهم وتلازم تهجيرهم واليهود من تلك الديار؟ وكيف له أن يمرّ سريعاً على الاتجار بالعبيد الأفارقة وسوقهم إلى مزارع الفستق في أميركا كمحطة تاريخية في الاستعباد البشري بأسطر قليلة، فمن ينسى كتاب «الجذور» وغيره من الكتب والأفلام السينمائية التي عالجت ندوباً لا تزال قائمة إلى اليوم في النسيج الاجتماعي الأميركي. وكيف له أن يمرّ على ذكر «قيام دولة إسرائيل» (ص41) من دون أي ذكر لترحيل الفلسطينيين القسري من بلدهم، ومن أين له أن يعتبر أن القرن العشرين تميّز عن القرنين السابقين بتراجع معدلات الترحيل الجبري؟ (ننصح علوان بقراءة كتاب محمد جمال باروت «التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة الفراتية السورية» والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لما يتضمّن من توثيق للمجازر وترحيل شعوب المنطقة ما بين سورية وتركيا من أرمن وأكراد وآشوريين وكلدان وغيرهم في عهدَي الانتدابين الفرنسي والبريطاني والضغط التركي الأتاتوركي، من دون أن ننسى الاستعانة بكتاب المؤرِّخ اليهودي إيلان بابيه «التطهير العرقي» عن التهجير القسري والجبري للفلسطينيين قبل العام 1948 وبعده). وماذا عن الهنود الحمر واقتلاعهم من ديارهم؟ تتعدّد فئات الرحيل كما في النظريّات حولها، ويرى علوان «أن كل معيار نضيفه في دراستنا إلى الرحيل يمكن أن يفرز تصنيفاً جديداً. فمعيار الشرعية مثلاً يفرز الهجرة غير الشرعيّة، ومعيار الحدود السياسية يفرز الهجرة الداخلية والدوليّة، وهناك معيار الدراسة والسياحة واللجوء، ومعيار الحرية في اختيار قرار الرحيل الذي يفرز الهجرة الطوعيّة من الجبريّة، ومعيار المدة يفرز الرحيل الدائم من الموقت إلخ»، ليخلص إلى «أن الرحيل مرتهن بالحاجة البحثيّة» (ص47)، وأن هذه الدراسات أفرزت الكثير من النظريّات «لكنها صعّبت من بناء نظرية موحّدة للرحيل وشتّتت المفاهيم النظريّة»، فالنظريّات النفسيّة للرحيل لا تمت بصلة إلى النظريات الاقتصاديّة (ص51). ما يقودنا إلى النظريّة شبه الثابتة حول تقلّب أمزجة الفرد على مدار يومه وسنيّ حياته، وترابطها مع الظروف المحيطة به، وبما يؤكد عدم علميّة رسم بياني لمسيرة هذا الفرد المتقلّب والمتأجّج العواطف والآراء في الرحيل أو الرحيل المعاكس. يستأثر العامل الاقتصادي في العديد من صفحات الكتاب كأحد دوافع الرحيل والهجرة والتنقّل تطلّعاً نحو أسباب معيشيّة أفضل، لكننا لم نلمس رؤية المؤلف حول الناس الذين يعيشون تحت ظروف احتلال واستبداد أو في أخطار الحروب. (صدر الكتاب قبل إشهار داعش سيوفه بالقتل والترحيل).! وفي إشارته إلى «حمّى الذهب» كعامل استدعى هجرة واسعة إلى أكثر من منطقة في العالم، لم يشرْ إلى حمّى النفط وهجرة مئات الآلاف إلى دول مجلس التعاون الخليجي لما أتاح هذا القطاع من فرص للعمل، أو الهجرة إلى أفريقيا بحثاً عن ثرواتها، وإلى أنواع أخرى من الهجرات يختلط فيها الذاتي بالمصلحي، الفردي بالجماعي، «الشعاراتي» بالإستيطان. مع إشارته إلى أن التفضيلات الشخصية لم تنلْ مثل سابقاتها من البحث» ومنها الذائقة كما يقول، والتي لم تنلْ حظّها من الدراسة على رغم دورها الكبير في اختيار وجهة الرحيل». لكنه يلفت إلى ما أثبتته دراسات عدة عن العلاقة بين مستوى رأس المال البشري من تعليم وخبرات ومهارات وبين معدّلات الرحيل، ذلك أن البشر إمّا أن ينقصهم رأس المال البشري فيرحلون، أو أنهم يملكونه فيرحلون (ص158). ولهذه الأغراض تأسّست منظّمة الهجرة الدولية العام 1951 بجهد الحكومات الأوروبيّة بغرض توطين النازحين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم مفوضيّة الأممالمتحدة السامية لشؤون اللاجئين التي تأسّست بعد الحرب العالمية الثانية لحل مشكلات النازحين، إضافة إلى المنظّمات غير الحكومية وشبكات المهاجرين والوزارات المعنية. لكن السؤال الأساس يبقى: لماذا يرحل البشر؟ ومن الغوص في تعقيدات النفس البشرية إلى تكوين نظرية واحدة حول الرحيل والهجرة والتنقل، يبدو الغجر تيمة في هذا الفضاء! لا يمرّ يوم من دون أن تتناقل وسائل الإعلام خبر غرق سفن ُتقل المهاجرين بطرق غير شرعية، وتبثّ الصور الحيّة عن المآسي التي تحلّ بهم. ولا يكاد يمرّ يومٌ لا نسمع فيه عن مشاكل عدم اندماج المهاجرين في بيئاتهم الجديدة. - كلمتان من عالم نزار قباني: أسألك الرحيلا. * صحافية لبنانية