ترافق ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لغة وطقوس ومشاهد، تبتعد عن مناقشة الموقع السياسي الذي احتله صاحب الذكرى، مثلما تجعل من الصعب تبين ملامح «مشروع الحريرية»، ليكون ممكناً، بالتالي، الحديث عن وسائط استكمال هذا المشروع. عليه لا بديل من العودة، إلى حضور رفيق الحريري، في اليوميات اللبنانية، والتوقف أمام معنى «إسقاط دوره بالتفجير مما كان له كل معاني الخطورة، والمصيرية، على النظام والكيان». جاء رفيق الحريري إلى الحكم، بعد مقدمات اشتغال على الحرب الأهلية اللبنانية، ومن ضمن فريق مشترك، عمل محلياً وخارجياً، على الوصول بالحرب المذكورة إلى خواتيمها، أي أن رفيق الحريري جاء إلى لبنان «ببطاقة تعريف هادئة» ومن خارج الانقسام الأهلي، السائد، وأدبياته الملتهبة. كان اتفاق الطائف، محطة أساسية، وفي مقابل الصعود الجديد للشيعية السياسية، كان الصعود الآخر، للسنّية السياسية، التي أسلست القياد تباعاً، لزعامة رفيق الحريري، وعرفت معه نسخة من نسخ «تألقها» في المسيرة اللبنانية المعاصرة. عليه، كانت السمة الأخرى «لوعد الحريري»، تكثيف وزن السنّية السياسية، والإضافة إلى وزنها، من وزن «الشخص» الذي تحوّل رمزاً «للكثافة» ومعبراً عن ثقلها الراسخ. سرعان ما أعطى «الوضع اللبناني» لرئيس «السلم والوعد»، ثقته، كانت تلك الميزة الثالثة التي أضيفت إلى «ظاهرة الحريري». جاء ذلك بعد انتخابات نيابية، قوطعت مسيحياً، وفي ظل تدهور اقتصادي، ظن الكثيرون، أن وصول رفيق الحريري «المليء مالياً»، كفيل بإنقاذهم من انعكاساته. ممارسة الحكم، طيلة العهود الحريرية، شكلت في جوهرها، انضماماً إلى المحصلة العربية العامة، التي رعت بتوازناتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية، إنجاز اتفاق الطائف، وعبرت في الوقت ذاته عن رضى وتكيف، مع القراءة السورية لتنفيذ الاتفاق المذكور. لقد غطت «الحريرية»، وفقاً لقراءتها الخاصة، أحادية علاقة لبنان، بمحيطه العربي (مع سورية) وبررت كل سياسة «التنسيق الكامل» معها... مما سيصير له عنوان الإلحاق والالتحاق والهيمنة لاحقاً. بالتوازي. تعايشت الحريرية، مع صعود دور الشيعية السياسية، بالاستناد إلى مهمة مقاومة العدو الإسرائيلي. يمكن القول، بتحفظ، إن «الحريرية» ربطت بين المشترك اللبناني الداخلي، اقتصاداً (إعمار...) وسياسة (مقاومة...) وبين «المشترك الخارجي». إذا أردنا توسيع النقطة هذه على نحو لم يدر في خلد صاحب «الانضمامين»، لقلنا إن الأمر لامس بعضاً من جوانب الاستقلالية اللبنانية، التي لا يمكن أن تستقيم إلا على قاعدة التوازن بين الداخلي والخارجي الذي يلعب دوراً «سحرياً» في البنيان اللبناني. لقد كان من شأن ذلك أن ينقل بعضاً من مقاليد «الوزن التأسيسي» اللبناني إلى أيادي السنّية السياسية، التي تولّت، إلى توسطها بين أطراف التشكيلة اللبنانية، الجزء الأكبر من حشد الموارد المالية، للموازنة المحلية. لقد شكلت لحظة اغتيال رفيق الحريري إسقاطاً للوقائع المادية التي بنت دوره، خصوصاً في الجانب الذي بدا فيه هذا الدور طامحاً إلى القفز من فوق طائفيته، ليلامس صفة «العابر» إلى وطنيته. في هذا المطرح يمكن القول، بما يتجاوز «مقاصد الحريرية» أيضاً، إن «الدور الوطني»، بما هو مسعى لتوسيع مساحة المصالح المشتركة بين اللبنانيين، كان ممنوعاً على رفيق الحريري، لأن اقتحام لغة المصالح «الجامعة» لقاموس الحسابات الخاصة، يرادف نسخة من الاستقلال اللبناني، المرفوض من «الأقربين»، والممتنع على أهل بيت الاستقلالات المختلفة. اليوم، أين أصبح ورثة الحريرية، بعد غياب «مؤسسها»؟ الجواب باختصار: لقد توارت تقريباً مجمل السمات التي كانت لصيقة ب «المؤسس» لسبب واقعي أولاً، ولأسباب ذاتية ثانياً... فعلى صعيد واقعي، أطيح «الرجل المشروع» فوضع بذلك حد لتراكمات ميدانية وسياسية، لم تكن عرفت نتائجها طريقها إلى التبلور، وجرى تبدلٌ في الانحيازات الداخلية والخارجية، ما نقل الخلاف حول الحكم، من منطقة الخلاف الإسلامي - المسيحي، إلى حيز الخلاف السنّي - الشيعي، مع الامتدادات الخارجية لهذين المحورين، بكل التباساتها. إن تبدل صورة الداخل اللبناني وتحالفاته، لا يدور في معزل عن المداخلات الخارجية، العربية والإقليمية والدولية، ما يضيّق على «التجربة الحريرية»، ويجدد الحاجة إلى تسليط الضوء على الجوانب «الوطنية» منها، بما يتناسب وكل المعطيات التي تلت يوم الرابع عشر من شباط في عام 2005. في هذا الجانب، تقع الأسباب الذاتية، التي لا تزال غير مساعدة، في مضمار استلهام «المضمون» الأهم لممارسة رفيق الحريري. على سبيل التعداد، ومن دون شرح مطول، يمكن القول إن «الحريرية» باتت مشابهة أكثر ل «سنّيتها»، وإن انضمامها سابقاً إلى محصلة عربية عامة، صار إقامةً في محور عربي دون غيره، وإن قدرتها على إقناع الآخرين بدورها «الوسطي» في الاقتصاد والسياسة، تراجعت كثيراً، وإن لا وريث للحريري اليوم يستطيع أن يخاطب اللبنانيين من «مرمى الثلج إلى فقش الموج»... وأخيراً لا خطاب سياسياً حيال الخارج، يستطيع حفظ الهامش المطلوب بين ربط الاستقلال بهذا الخارج، وبين بلورة السعي الجدي لانتزاع الاستقلال منه! إن اقتصار النقاش على الحريرية، المماثلة لقريناتها اللبنانيات، تمليه أحكام الذكرى، التي ما زالت ارتداداتها تثقل على كاهل اللبنانيين. * كاتب لبناني