«المقاطعة» أو «مناهضة التطبيع مع إسرائيل» مسألة أعيتنا تماماً في ضوء تجلياتها الإشكالية وأحكامها المنفلتة من كل عقال - نقول هذا في ضوء ما لمسناه من ضياع بوصلة وغياب المعايير. فإذ بسدَنَة المقاطعة ومحركيها أشبه بشيوخ طريقة وأمراء جماعات يتفننون في إصدار فتاوى وتوجيهات جعلت من «المقاطعة» أضحوكة أو فعلاً جارفاً راح فيه الصالح بجريرة الطالح والمشروع السياسي ضحية المزايدة. وسأعرض للأمر من زاويتين لنا علاقة مباشرة بهما وهما، زاوية المقاطعة الجارفة غير المستندة إلى مشروع قابل للحياة وزاوية ضحايا المقاطعة من مناضلين ضد السياسات الصهيونية والاحتلالية أو الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل. قبل أن نخوض غمار هذا السجال لا بدّ من الإشارة إلى الفرضيات التي أنطلق منها. أسجل أولاً إقراري بأنني أعتبر أي تسوية للمسألة الفلسطينية على كل ملفاتها ستكون نسبية وستمرّ عبر الاشتباك بالمسألة اليهودية وملفاتها. وأسجل اعتقادي أن أي مصالحة مستقبلية في فلسطين/ إسرائيل لا يُمكن أن تقوم على التطهير العرقي المعكوس لفلسطين من اليهود الذين وفدوا إليها وإنما ببقائهم وبالإقرار بحقوقهم الجمعية ضمن مصالحة مأمولة ووفق شروطها. بمعنى أنني لا أنظر إلى المجتمع اليهودي في إسرائيل وخارجها نظرة عنصرية ولا غيبية ولا أتطلع إلى هيمنة مضادة لهيمنته بخاصة أن أوساطاً منه في إسرائيل وخصوصاً خارجها انتقل إلى ما بعد الصهيونية. لا يُمكن المقاطعة أن تنجح إلا إذا كانت محسوبة ولتحقيق مشروع سياسي عيني أو أهداف عينية. وهذا يعني ألا تكون منفلتة من معيار أو ضابط وإلّا فقدت فاعليتها وتأثيرها. وهو ما يحصل الآن. فخطاب المقاطعة المتدحرج عربياً لا يزال جارفاً فجاً غير ناضج يعدم هدفاً واضحاً غير التأشير ضميرياً إلى موقف ضد إسرائيل أو ضد مَن يُعتبرون إسرائيليين وضد الذين يفدون إلى إسرائيل من فنانين أو نجوم أو رموز ثقافية. خطاب يتحرك بمزاج شعبوي من المرجح ألا يلتقي في المؤدى بأشكال المقاطعة الغربية لا سيما الأوروبية. وهو ما يرشح هذا الخطاب إلى التلاشي من دون كبير أثر. المقاطعة، ونفترض أنها متعددة الأشكال، ينبغي أن تكون محسوبة على مقاسات مشروع سياسي ما. فإذا كان المشروع قابلاً للحياة ازدادت احتمالات للنجاح في التأثير أما إذا كان غيبياً وغير سياسي أو جنوحاً نحو التفكير بوجوب إزالة إسرائيل من الوجود فإن الحديث عن مقاطعة سيكون مجرّد ضريبة كلامية أو مزايدة لفظية لا تقدم ولا تؤخّر. عادة لا يكلف المقاطعون أنفسهم عناء التدقيق في التفاصيل. فلا يفرقون مثلاً بين يهودي وبين صهيوني أو بين يهودي مناصر للحقّ الفلسطيني وبين يميني متطرف أو بين فلسطيني في إسرائيل وبين مستوطن. مقاطعة جارفة غير محسوبة الأهداف كهذه ولا عملية توقع الضحايا في الجانب الإسرائيلي من الحدود. فكأن مُحدثي المقاطعة يُطلقون النار على أرجلهم. لا أحد حتى الآن استطاع أن يفسّر لماذا يُقاطَع فلسطينيون من إسرائيل كل ذنبهم أنهم بقوا في وطنهم على رغم النكبة؟ ربما ليس بطولة منهم ولا صموداً بل لمجرّد خطأ في المشروع الصهيوني. ومع هذا بقوا هناك! فهل بقاؤهم تطبيع مع «الكيان الصهيوني» يُعاقبون عليه بمنعهم من دخول بيروت أو الوصول إلى الدوحة أو المشاركة في مؤتمر فكري في تونس؟ وهل هم مُدانون لأنهم يسكنون الجليل وحيفا وليس مخيم لاجئين تهاجمه قوات الأسد مثلاً أو يقتحمه الجيش اللبناني؟ ولماذا تتم مقاطعة شخصيات يهودية من إسرائيل وخارجها على رغم كونها جزءاً من نضال عالمي ضد الاحتلال والسياسات الإسرائيلية وأن مساهمتهم في هذا النضال أكثر من دول عربية بكاملها؟ ما ذنب الإسرائيليين اليهود الذين دفعوا في دولتهم ثمناً غالياً لقاء نشاطهم السياسي أو الفكري أو الأكاديمي حتى تشملهم المقاطعة العربية ب «عطفها» لتجعلهم يدفعون الثمن بالعملة العربية أيضاً؟ كأن المقاطعة موجّهة ضد الجغرافيا وليس ضد مؤسسات دولة وسياساتها وممثليها الرسميين وممثلياتها. فلا تفرّق بين إنسان ولد يهودياً وبين الدولة اليهودية إلى حدود الوقوع في فخ العنصرية المضادة لليهود واليهودية. من هنا، فإن مُحدثي المقاطعة من العرب وفي المجتمع الفلسطيني بوجه خاص غير محررين من بذل الجهد الفكري والأخلاقي والسياسي في تشييد مبانٍ مضبوطة للمقاطعة وإلا أوقعت ضحايا أكثر مما يُمكن أن تؤثّر في الطرف الإسرائيلي. وأقترح أن يكون ذلك بدراسة التجربة الأوروبية في المقاطعة. فهي تأتي رفضاً لسياسات الاحتلال والاستيطان وليس ضد وجود دولة إسرائيل. وهي تقوم على أساس التمييز بين إسرائيل في حدود حزيران 67 وبين المراكز الاستيطانية في المناطق المحتلة وبين الممثلين الرسميين لدولة إسرائيل وبين أفراد إسرائيليين، بين سياسي يميني وناشط سلامي، بين إسرائيل المنزلقة نحو أبرتايد وبين قوى إسرائيلية تناضل ضد هذا الانزلاق. وبين هذا وذاك ينبغي الالتفات إلى الفلسطيني في حدود 48 وحاجته الوجودية إلى فضائه وثقافته العربيين. فقط مثل هذا التدقيق في التفاصيل يُعطي للمقاطعة بُعدها الأخلاقي الضروري ويحول دون تلاشيها. وقد تصير المقاطعة العربية فاعلة في حال تم تفصيلها في شكل سياسي معقول يتفق واللغة السياسية المتداولة القابلة للصرف والنحو.