لم يعد غريباً أن ترفع صور أسامة بن لادن في تظاهرة في مصر ل «نبذ العنف»، فكم من الوقائع التي تمر كل يوم دون أن تثير الدهشة، أو يقف عندها أي مسؤول، سواء على الأرض حيث التظاهرات والاعتصامات وقنابل الغاز والخرطوش والمولوتوف، أو في القاعات حيث جلسات السياسيين والمسؤولين وصراعات النخب. لذلك مرت واقعة بني سويف من دون أن تنتفض لها الدولة، أو تتحرك الحكومة، أو تهب مؤسساتها، أو تلفت انتباه أقطاب الحكم، بل تلحظ «طرمخة» من المسؤولين تجاهها، ومحاولات لإخفاء معالمها أو تفاصيلها أو أدلة الاتهام ضد المتورطين فيها. المثير للسخرية أنهم يعودون ليشكوا من انتشار العنف، ويسألون عن أسبابه، ويتهمون الآخرين بالمسؤولية عنه. الحكاية أن قوة من الشرطة خرجت لمطاردة بعض الخارجين على القانون المتهمين في قضايا بلطجة ومخدرات وسطو مسلح في محافظة بني سويفجنوب العاصمة، ووقعت معركة بين الطرفين أطلق خلالها أحد المشتبه فيهم النار على ضابط فأرداه قتيلاً. تبدو الحادثة طبيعية ومكررة خصوصاً في ضوء ما أعقب الثورة المصرية من نشاط سرطاني للخارجين على القانون والبلطجية الذين يزدهرون في أجواء الانفلات الأمني، وهم أيضاً الذين يُستخدمون من جانب المتصارعين على الحكم بين الحين والآخر، أو كلما دعت الضرورة، أو عندما يحتاجهم طرف ليتهم طرفاً آخر بتحريكهم أو «الدفع» لهم... وبهم! أما غير الطبيعي أن تأتي الشرطة بالمشتبه فيه بعد القبض عليه وتضعه على سطح سيارة وتجول به شوارع المدينة أثناء جنازة الضابط، فيجتمع حوله زملاء الضابط وأهله وجيرانه وبعض المتعاطفين الغاضبين لينفذوا في حقه حكماً بالإعدام أصدروه هم قصاصاً، إذ طوال فترة الجنازة ينهال الجميع عليه ضرباً وسحلاً وتنكيلاً، وسط صيحات «رصاص برصاص» و»دم بدم» و»القصاص القصاص». لاحظ هنا أنها الشعارات والهتافات نفسها التي ترفع أحياناً في التظاهرات ضد الشرطة! وعندما يعتقد الجميع أن المشتبه به قد مات يلقون به في مستشفى لاتخاذ إجراءات دفنه، لكن الأطباء يكتشفون أنه مازال على قيد الحياة فيعالجونه. وحين كان كل مسؤولي الشرطة ورجالها وأهل المدينة يكملون جنازة الضابط توجه أهل المشتبه به إلى المستشفى وهددوا الأطباء وأخرجوه واصطحبوه معهم! قمة العبث والخروج على القانون وإسقاط ما تبقى من هيبة الدولة التي يتصارع على مقاليد الحكم فيها السياسيون. بينما تشكو الشرطة من الزج بها في أتون ذلك الصراع السياسي، وتؤكد أن لا ناقة ولا جمل لرجالها فيه، رغم أن الناس يشاهدون ضباطها وأفرادها كل يوم يواجهون الناشطين ويطاردون السياسيين. ويسألون عن العنف وأسبابه بينما الجهات التي يُفترض أن تواجه العنف تمارسه والتي عليها أن تُوقفه تحبذه والتي من واجبها منعه تنشره! السؤال المهم: كيف تطلب الشرطة من الناشطين مراعاة القانون والسير في إجراءات قضائية لنيل القصاص لزملائهم الذين استشهدوا في المواجهات، بينما رجالها يقتصون من قاتل الضابط جهاراً نهاراً، وأمام العدسات، وقبل أي تحقيق أو أي حكم قضائي؟ وماذا عن الأسلحة التي رُفعت أثناء الجنازة من المدنيين في جوار أسلحة رجال الشرطة؟ مشهد يختزل الأحوال في مصر واهتراء مؤسسات الدولة وتطبيقها للقانون وفقاً لمعاييرها الخاصة. قبل أن تتحدث عن انفلات التظاهرات أو عنف الاحتجاجات، إذا كان هذا هو الوضع، ليس غريباً إذاً التغاضي عن وقائع الهجوم على الناشطين عند قصر الاتحادية، أو حصار المحكمة الدستورية، أو مدينة الإنتاج الإعلامي، أو حوادث استهداف الناشطين، ثم يسألون عن العنف وأسبابه. أكثر ما أثار الدهشة والسخرية أو الضحك، بحكم أن شر البلية ما يضحك، تصريح مسؤول أمني في بني سويف جال بين برامج الفضائيات مدعياً أن وجود المشتبه فيه أثناء جنازة الضابط كان مصادفة، مبرراً الاعتداء عليه بأن الضابط القتيل، أو قل الشهيد، من أبناء المحافظة ومن عائلة كبيرة ويحظي بحب وتقدير الأهالي، نافياً أن يكون أي من رجال الشرطة شارك في الاعتداء عليه، من دون أن يدري المسؤول أن كلامه عبر الشاشات كان مصحوباً بمشاهد للأهالي وضباط وأفراد الأمن أثناء تحقيقهم القصاص! تعاني الشرطة منذ سقوطها عند انطلاق الثورة المصرية أزمة ثقة، وما تظاهرات بعض أفرادها الأسبوع الماضي ضد الزج بهم في الصراع السياسي إلا نموذج يضاف إلى كراهية قطاعات من الشعب لها بحكم تراث الماضي، لكن الأخطر عليها الآن تفويت كل فرصة لتجاوز أزمتها والابتعاد عن الشعب حتى لو كانت تقترب أكثر... من الحكم!