بين «الموت في البلكونة» و «التعذيب في الأقسام» و «التصويب في التظاهرات» يجد أضلاع الثالوت المجتمعي في مصر اليوم أنفسهم في حيرة شديدة، ففي وقت تتنافس دقات الساعات وهي تقترب من تظاهرات الجمعة، ودقات القلوب وهي تترقب مجريات هذا اليوم على سرعة الدق وصخبه، يجد لاعبو الساحة الرئيسيون أنفسهم واقعين بين شقي رحا. فالمواطنون ارتفع أنينهم من وطأة البلطجة والانفلات الأمني الذي تُخشى زيادته مع اقتراب اليوم الحاسم، والمسؤولون يطلقون تصريحات يميناً ويساراً عن الضرب بيد من حديد على التخريب والمخربين مع الاحترام الكامل للتظاهر والمتظاهرين، والشرطة تدور في دوائر مفرغة حول الفرق بين التخريب والتظاهر، وكيفية التعامل مع المتظاهرين لو انقلبوا مخربين، وجمعيات حقوقية تضرب بيد من حديد هي الأخرى، ولكن هذه المرة على ما تبقى من شرطة في الذكرى الثانية للثورة التي قامت يوم «عيد الشرطة». فمن «القتل مستمر» إلى «إعاقة المساءلة» إلى «شهداء خلف القضبان»، تجد الشرطة المصرية نفسها في هذه الساعات العصيبة السابقة للذكرى الثانية ل «ثورة يناير» كمن رقصت على السلالم، فلا هي خضعت لإعادة هيكلة ولا هي تطهرت ولا تم تمكينها وتدريبها لتقوم بمهامها. تقارير عدة أطلقتها جمعية «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» أمس لتأكيد أن موت المواطنين أثناء وقوفهم في شرفات بيوتهم ما زال مستمراً، وأن تعذيبهم في الأقسام ما زال منتعشاً، وأن اللجوء إلى الرصاص ما زال سهلاً. سهولة رصد وتوثيق انتهاكات الشرطة تتضح من كثرة الحالات المسجلة، سواء في التعامل مع التظاهرات والاضطرابات العامة، أو في ملاحقة المشتبه بهم وتنفيذ الأحكام، أو في حفظ الأمن في الأماكن العامة. التقارير الصادرة رأت أن استعمال الشرطة للعنف المفرط والتعذيب ما زال منهجياً كما كان تحت حكم الرئيس السابق حسني مبارك. وتنقلت التقارير بين «حالات تعذيب ومعاملة قاسية أو لا إنسانية في أماكن الاحتجاز في عامي 2011 و2012»، و «قيام رجال الشرطة بارتكاب جرائم القتل خارج نطاق القانون نتيجة الاستخدام العشوائي للرصاص أو الاستخدام المفرط للقوة». وفي خضم رصد حالات التعذيب والاستخدام المفرط للقوة والبعد عن المساءلة وعرض النتائج تارة بأفلام، وأخرى باستضافة حالات تعرضت للانتهاك، وثالثة بالأرقام والإحصاءات، قال مدير المبادرة حسام بهجت إن المبادرة أصدرت دراسة قبل نحو عامين تتضمن رؤية شاملة لإعادة هيكلة وإصلاح الشرطة «وقت اعتقدنا أننا قمنا بثورة». هذا الاعتقاد الأميل إلى الشك والذي بات يراود كثيرين في ظل تدهور الأوضاع وخفوت صوت الثورة وصانعيها وشعاراتها المطالبة بالعيش والحرية والعدالة أمام موجة الإسلام السياسي بأولوياتها المختلفة غاب عن التقارير الصادرة لمناسبة واضحة من العنوان «25 يناير 2013: عامان من الثورة والظلم مستمر». فعلى رغم الوقائع والحالات المرصودة حقوقياً واستمرار جهاز الشرطة من دون تغير حقيقي يذكر على رغم تعاقب وزراء داخلية عدة عليه، إلا أن محتوى هذا الجهاز يجد نفسه بعد عامين من الثورة متأرجحاً بين قفص الاتهام وموقع الضحية. أحد ضباط الشرطة المتمركزين في وسط القاهرة أبدى تعجباً شديداً من مثل هذه التقارير، بل انه اعتقد في بداية الأمر أن التقرير سيحمل نوعاً من الإشادة أو حتى «الإنصاف» للشرطة. وقال ل «الحياة»: «بالطبع جهاز الشرطة مليء بالمشاكل وفي حاجة ماسة إلى إعادة الهيكلة، لكن هل إعادة الهيكلة وتصحيح المفاهيم السائدة في داخله عن حفظ الأمن والتعامل مع المواطنين هي مهمة النقباء والرواد والملازمين (الرتب الصغيرة) أم أنها رؤية ونظرة وخطة وتفعيل من قبل القيادة؟». القيادة التي لم يفصح الضابط المحبط عن هويتها قد تكون وزير الداخلية وقد تكون رئيس الجمهورية. وفي هذا الصدد، يرصد أحد التقارير الصادرة أمس إنجازات الرئيس محمد مرسي، فعلى غرار برنامج المئة يوم لمرسي، خرج التقرير تحت عنوان «جرائم القتل والتعذيب على يد الشرطة في الشهور الأربعة الأولى من حكم الرئيس»، وهو يرصد السيناريو الذي تنبأت به القوى الديموقراطية والثورية والحقوقية طوال عام 2011، حين طالبت بإصلاحات ضرورية في بنية وعقيدة الجهاز الشرطي، محذرة من أن التراخي في التطبيق سيعود بمصر إلى النقطة نفسها التي اندلعت منها الاحتجاجات في يوم «عيد الشرطة» لتنقلب ثورة شعبية تواصلت حتى إطاحة رأس النظام. رأس النظام وجسم النظام والنظام الحالي نفسه لا يعتبرون إصلاح الشرطة وإعادة هيكلتها ومن ثم هيبتها لنشر الأمن المبني على احترام حقوق المواطن ضمن الأولويات، وإلا لظهر هذا في خطواتهم وبياناتهم ورؤاهم، حسبما قال مواطن خمسيني وجد نفسه واقفاً على كورنيش النيل في حي غاردن سيتي محاطاً ببلطجية احتلوا الكورنيش وسيارات مجنونة تقطع الطريق في كل الاتجاهات ضاربة عرض الحائط بالقوانين. وأضاف بنبرة غارقة في الغضب واليأس: «سنظل ندور في دوائر مفرغة من البلطجة والانفلات إلى أن يحاسب الجميع على جرائمهم، بمن فيهم الدولة». الطريف أن هذا هو جزء من الشعار الذي اختارته «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» لإحياء ذكرى الثورة الثانية عبر ملصقات صفراء تحمل عبارة: «جرائم الدولة لا تزال بلا حساب». أما ضابط الشرطة فضرب كفاً على كف وقال محدثاً نفسه: «يعني يوم 25 المقبل لو وجدنا أنفسنا هدفاً للعنف، هل نرد أم نختفي من الساحة؟ وإن قتلت أثناء تأدية واجبي، هل يقرأ المصريون الخبر في صفحة الحوادث مصرع ضابط شرطة ويعودون إلى الصفحة الأولى ليطالعوا أخبار الشهداء الثوار؟».