لفتة سريعة إلى أحوال مجتمعات ما بعد الثورة تُقدّم لوحة ملتبسة لملامح العالم العربي الجديد، تتمازج فيها صور الحروب الطائفية وقمع العسكر وحكم الإسلاميين مع ملامح حركات شبابية ومقاومات محلية وتحركات إصلاحية. وترافق تلك اللوحة حالة من الخيبة، مفادها أن الثورات فشلت في إرساء عالم جديد واقتصرت على تغيير رأس النظام. من الصعب الرد على هذه الخيبة او إنكار تعثرات الثورات في أيامها الأولى، لكن من الضروري أيضاً الإعتراف بأن لتلك الخيبة أسباباً مرتبطة بانهيار منظومات فكرية سيطرت على الفكر السياسي العربي لعقود وفشلت في تقديم تحليل للأحداث الراهنة أو خريطة للعمل السياسي. ومن المفيد هنا العودة إلى تصنيف ياسين الحاج صالح للمقاربات المطروحة قبل الثورات في شأن الدولة وعلاقتها بالمجتمع. فوفق الكاتب، يمكن تقسيم المقاربات تجاه تلك المسألة إلى ثلاث مقولات. تقوم الأولى، «الديموقراطية»، على فرضية أن نظم الحكم استبدادية وبديلها ديموقراطي. وبناء عليه، يُتوقع من إسقاط النظام أن يؤسس لمرحلة أكثر تحرّراً وديموقراطية. أما المقاربة الثانية، «التعبيرية»، فتفترض أن الدول الحالية تشكّل انعكاساً للمجتمعات، نابعة من نفس التربة الحضارية والثقافية. أخيراً، تقوم المقاربة «التحديثية» على فرضية تقدّم الدول على مجتمعاتها ودورها في تحديث أطرها (مجلة «كلمن»، ربيع 2010). برهنت الثورات العربية فشل المقاربة التحديثية، وأظهرت مخزونها القمعي وعقمها التحديثي في آن واحد. فلم يبق عاقل يمكن أن يدافع عن الأنظمة بعد مجازر بابا عمرو، أو أن يقبل بصفقة القمع مقابل التقدّم كيفما عُرِّف. لكن التحولات الأخيرة أضعفت أيضاً المقاربة الديموقراطية وإيمانها بالانتقال إلى نظام ديموقراطي تلقائي. فمن ليبيا إلى سورية، يبدو المستقبل الديموقراطي بعيداً، وبحاجة إلى أكثر من مجرد رحيل الطاغية. أما المقاربة التعبيرية، فرغم شعبيتها كتنظير لحالة الخيبة تجاه السياسة، تبقى رهينة لحتمية تاريخية، مفادها أن التغيير مستحيل. وضعت الثورات العربية تلك المقاربات أمام تحد أضعف منطلقاتها النظرية. ويبدو أن سبب هذا الفشل هو الأسلوب المشترك لتلك المقولات رغم اختلافاتها، وهو التفكير من خلال «كلّيات» كالمجتمع والدولة والإسلام والديموقراطية وغيرها من المفاهيم المجرّدة. فرغم ذهاب الحاكم سياسياً، «ما زلنا لم نقطع رأس الملك في الفكر السياسي»، كما كتب منذ أكثر من ثلاثة عقود، المفكر ميشال فوكو. رمز الفيلسوف الفرنسي من خلال هذه العبارة إلى ضرورة تحرير الفكر السياسي من نظريات القانون والحرية والإرادة والسيادة والدولة وغيرها من المفاهيم التي فشلت في التقاط نمط عمل السلطة الحديثة، معتبراً إياها أجساماً ميتة تحوم فوق الواقع. رغم اختلاف الأوضاع بين مجتمعات ما بعد الثورة ومجتمعات أوروبا ما بعد الحداثة التي شكّلت سياق فوكو التاريخي، تشكّل ملاحظته مدخلاً مختلفاً لتأسيس نظرية سياسية تقوم على رفض ثلاث فرضيات أساسية. أولاً، رفض احتكار مبدأ السلطة، في مؤسسة أو شخص أو تركيبة إجتماعية، بل اعتبار انها تخترق تلك التركيبات النظرية، في هندسة لا تتناسب ومقولة تناقض المجتمع والدولة أو الطغيان والحرية. بناء عليه، ينفي هذا التصور نموذج الصراعات «الثورية»، معتبراً أن ليس هناك مركزاً للسلطة يمكن اقتلاعه، بل هناك سلطات عديدة ومركّبة ومتناقضة، تتطلب مواجهاتها تحالفات واستراتيجيات مختلفة ومتغيرة. أخيراً، تقتضي تلك النظرة الى منطق السياسة والسلطة دوراً مختلفاً للمثقفين، يستبدل صورة «المثقف الكوني»، الذي يجادل التاريخ باسم الحقيقة، بصورة المثقف «المحلّي» أو «الخاص»، الذي يدخل إلى السياسة من باب صراعات محلية. الرجوع إلى فوكو محاولة لتفكيك بعض الأسس النظرية للخيبة المستجدة اليوم، مفادها ضرورة استبدال صورة الثورة بوصفها النموذج للمعركة القادمة، بأخرى أقرب إلى «حرب شوارع إصلاحية»، لا تحسم بضربة ولا بحزب طليعي يقودها. ومن هنا، يمكن إعادة تقدير الثورات كمدخل لتلك الصراعات الإصلاحية، وليس كضمانة مستقبل أفضل. فالضمانات من عصر ما قبل السياسة، أما الخيبة فهي مدخلنا إلى السياسة. * كاتب لبناني